مشروع شجار: نعم للفصحى!

اخترنا لك

غادة السمان:

في المترو (قطار الأنفاق) الباريسي حظيت بمقعد وبدأت قراءة مجلة أدبية هي «الحياة الثقافية التونسية» العدد 287 كانت في انتظاري في صندوقي البريدي كهدية. وانتهز الفرصة لشكر الذين يتكرمون بإرسالها لي إلى باريس منذ أعوام بفضل الصديق الأديب عبد الرحمان مجيد الربيعي العراقي/التونسي وهو من هيئة تحريرها، كما أشكر الشاعر سيف الرحبي الذي يرسل لي مجلته نزوى من سلطنة عُمان من زمان والأديب محمد عبد الله السيف الذي يزودني بـ«المجلة العربية» السعودية ويرأس تحريرها وكلها لا يباع في مكتبات باريس و(أكشاك) بيع الصحف والمجلات، وحضورها يغنيني بمعرفة بعض ما يدور أدبيا في عالمي العربي الذي غادرته إلى باريس منذ أكثر من ثلاثة عقود ولم يغادرني وما زلت أطارده وألاحق أحداثه من سياسية وأدبية ومأساوية كجزء منها، لا كمتفرجة لا مبالية، أو محايدة.

الصفحة الأخيرة، وتونس الأنس

ولأنني في المترو وأمامي خمس محطات فقط حتى أصل بدأت قراءة المجلة من صفحاتها الأخيرة المختزلة وهو ما أفعله حين يضيق الوقت ووجدتني أمام حوار مع أديب كبير أعترف أنني لم أسمع به ولفتني أنه كان يرد بالعامية التونسية على أسئلة الأكاديمي التونسي فوزي الزمرلي التي جاءت باللغة الفصحى. قرأت الحوار ولم أفهم بعض ما جاء فيه بالعامية التونسية.
أنا أعشق تونس التي زرتها مرتين من زمان وكتبت عن ذلك وبالصدفة يومها اكتشفت مدى اختلاف العامية السورية اللبنانية عن التونسية حيث قال لي احد الأدباء في سهرة أنس: مراتي «زعرة» وتعجبت إذ كيف يقول أديب عن مسلك زوجته بأنه غير لائق في عبارة «زعرة» ثم شرح لي صديق سوري يعمل في تونس وكان معنا أن «زعرة» تعني «شقراء» بالعامية التونسية! وكأنني أمام لغة أخرى.

العامية المكتوبة لغة أخرى بمعنى ما!

في زياراتي إلى تونس أحببت الخروج بمفردي والتسوق كما يحلو لي التسكع الحر وحاولت الحديث مع سائق التاكسي وفوجئت بصعوبة ذلك فهو يجهل الفصحى ويتكلم بالعامية التونسية وهي تكاد تكون لغة أخرى كما العامية الجزائرية (وأمه جزائرية) وصرت أحدثه بالفصحى المبسّطة وفهم ما أقول وسرني يومها أن في وسعنا أن نتحدث ونتحاور بلغة واحدة: هي العربية الفصحى المبسطة.
حين عدت من المــترو الباريســـي إلى البيت قرأت مجلة «الحياة الثقافية» قراءة متأنية ووجدت أن الحوار الذي تم الرد عليه بالعامية هو مع أحد أشهر أعمدة الأدب في تونس البشير خريف ـ 1917 ـ 2017 أي في عيده المئوي ـ ندوات فكرية ـ معرض وثائقي ـ عروض سينمائية، كما أن عدد المجلة كان بأكمله مكرسا له.
لقد تواصلت من زمان مع العديد من أدباء المغرب، اما البشير خريف فهذه هي المرة الأولى التي أتعارف فيها مع أبجديته ولا أتعاطف مع انحيازه للعامية قائلا بسخرية «العفو أيتها الفصحى» ولكنني أعتقد أن سعيد عقل الشاعر اللبناني الذي بنى مجده بقصائد بالفصحى ( ثم تنكر لها) كان سيبتهج به وبقوله: نحب لغتنا كما يحب كل قوم لغتهم كما نصل بهذا الحب إلى درجة التقديس، ولهذا مبرراته، ويضيف خريف. «وللعبري مميزات جليلة انفردت بها دون جميع اللغات المستعملة فهي أقدمها وأوسعها رقعة وأثرها كما» ولو كان البشير خريف حيا لتشاجرت معه أدبيا فهل العبرية هي حقا كذلك وهل لها «مميزات جليلة» أكثر من العربية كما يَذكر؟ ثم إن خريف يربط حب الجميع للعربية «لما تحييه فينا من ذكريات المجد السالف» كما يقول وذلك ليس دقيقا ولا صحيحا بمعاني الكلمة كلها إذ في وسعي الكتابة بالفرنسية والإنكليزية لكنني اختار اللغة العربية لمزاياها. أي أنني أيضا أحب اللغة العربية لأسباب عصرية وعملية وإبداعية تنبع منها في نظري.

عجزت عن قراءته إلا مترجما للفرنسية!

منذ أعوام أهداني أديب مغربي كبير رواية له، وحين بدأت بالتهامها اكتشفت عجزي عن ابتلاعها! فمعظم الرواية بالعامية المغربية التي أجهلها كملايين القراء العرب. وهكذا انتظرت صدور الترجمة الفرنسية للرواية وطالعتها ووجدتها رائعة وحزنت، إذ حين يكون في وسع كاتب الكتابة بلغة يفهمها ملايين الناس في الكثير من الأقطار، لماذا يكتب بلغة لا يفهمها إلا شعب قُطْرٍ واحد؟
وكيف يكون في وسع الروائي أن يخاطب الملايين وهو يخاطب أقل من عشرهم حين يكتب بالعامية؟ أليس هدف الكاتب الوصول إلى القراء وليس النكاية بالعربية الفصحى؟

غواية العامية

حسنا. أنا بنت شامية (عتيقة) أعرف سحر العامية، وكان زوجي اللبناني يضحك بحب حين أتحدثها شفهيا وثمة تعابير عامية كثيرة وردت في روايتي «فسيفساء دمشقية» لكنني في الكتاب ذاته كتبت في الهامش الترجمة العربية الفصحى لتلك التعابير الشامية. فأنا لن أخاطب فقط قارئي السوري ما دام في وسعي مخاطبة العرب/الملايين الذين يفهمون الفصحى. ولذا وقفت دائما مع الفصحى ضد العامية دون أن أتنصل من تقديري (المحدود) للعامية!
وتحية إلى روح الأديب المصري فاروق شوشة عاشق اللغة العربية مثلي صاحب برنامج «لغتنا الجميلة». فحراس الفصحى هم عشاقها.
في المقابل: ترى هل سأغفر يوما للشاعر الكبير باللغة العربية سعيد عقل حين خانها وقام بالدعوة للكتابة باللغة العامية اللبنانية وفشل حين نفذ ذلك؟
واليوم، وقد كادت أغنية «بلاد العرب أوطاني» تبدو حكاية عتيقة رثة بعدما تفككت فكرة العروبة لأسباب شتى، ازداد دعما للغة الفصحى التي لم يبق ما يجمعنا سواها تقريبا ـ فهل سنزرع في أبجديتها أصابع الديناميت ونتنكر لأمنا الكبيرة؟

الخبر اليمني/أبجدية

المادة السابقة
المقالة القادمة

أحدث العناوين

قائد أنصار الله يتحدث حول العمليات اليمنية المساندة لغزة وتداعياتها على اقتصاد العدو

كشف قائد حركة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، عن إجمالي عدد السفن "إسرائيلية" وأمريكية وبريطانية التي تم استهدافها دعما...

مقالات ذات صلة