لو سألنا أي أم: ما أقصی ما يمكن أن تفعلينه لأجل أبنائك؟
ستكون الإجابات معروفة سلفاً، وستصدق كل أم فيما تقول، وسنصدق كل أم.
تسهر، تتعب، تشقی، تجوع، قد تتنازل عن كرامتها، قد تبيع نفسها لتطعم أطفالها، وقد وصل الحال بأم أن تقتل أبناءها وتقتل نفسها عندما سدت أمامها كل أبواب الخلق، فقررت أن تغادر هي وأبنائها إلی الخالق!
لكن أن يصل بها الأمر إلی الجنون، بعد أن عجزت عن إعادة إبنها لعقله بعد أن جن!
في ركن من أركان الشارع المؤدي إلی مستشفی الكويت في العاصمة صنعاء، كان مطعم صغير يقدم الوجبات الثلاث يومياً للزبائن. أكلات شعبية وسعر مناسب وموقع متميز، وتلك المرأة السمراء الممتلئة الجسم، هي من تطبخ وتخدم الزبائن وتتسلم الأجر، عقلها في المطعم، وقلبها هناك، في البيت حيث تغلق الباب ككل يوم علی إبنها المصاب بحالة نفسية، ما إن تنهي عملها في المطعم، حتی تهرع إلی ابنها، وقد قلب كيان البيت لتظل إلی جواره بقية اليوم.
ذات يوم، وقبل غروب الشمس، خرج ابنها ذي العشرين عاماً من المنزل متجرداً من كل ثيابه، وهي تلاحقه… يصف المارة حالة تلك الأم، وهي تحمل ملاية تلاحق ولدها العاري، وهو يذرع الرصيف، وهي تصرخ وتبكي، محاولة اللحاق به، ساءت حال الإبن حتی أصبح كما يقولون مجنوناً رسمياً، وسكن الرصيف، بعد أن أعيتها الملاحقة، وعجزت عن إعادته إلى المنزل. أغلقت مطعمها البسيط، وسكنت مع ولدها ذات الرصيف، وأصبحت أخيراً مجنونة كولدها.
يعرفهما سكان ومرتادي مربع شارع الرباط من جولة القادسية، هي وولدها يحملان الملامح ذاتها: البشرة السمراء والعيون الواسعة الصافية اللامعة.
أصبح الرصيف سكنهما، أكوام من قطع بطانيات مهترئة يتغطيان بها، وكراتين كبيرة يفترشانها، ويمضي الإبن وأمه أيامهما ولياليهما جالسين يحدقان في المارة ويتبادلان الكلام، ويقتاتان مما يجود به عليهما المارة.
مجنونان مسالمان، لا يؤذيان أحداً، اعتاد المارة رؤيتهما والسير جوار رصيفهما، وتحيتهما أيضاً!
ذات يوم، هاجت الأم كلبوة في غابة، في وجه مجموعة من الشباب كانوا يسخرون من ولدها الثلاثيني المجنون، وجودها بجواره ليلاً ونهاراً تحميه من أي مكروه، إنها أم، حتی وهي مجنونة كولدها.
لا أحد كالأمهات، لا عطاء كعطاء الأمهات، لا شيء يمكن أن نرد به جميل الأمهات!
هن مصدر الحياة وبهن تزدهر، وهن من يتألمن ويدفعن الثمن أيام الحروب، ولتستمر الحياة، لا بأس أن يحضرن الماء من البعيد، ويستبدلن الغاز بالحطب، ومهما كان فقرهن، لا بد أن يؤمن الطعام لأسرهن مهما كان بسيطاً.
يعانين الفقد والفقر والتهجير والنزوح، ومع ذلك يستمر عطاؤهن، وهن علی استعداد تام لعمل أي شيء وكل شيء، وهل هناك أكثر من أن تجن أم لحماية إبنها المجنون؟!
الأمهات هن الجمال، هن العطاء، هن الحياة، لأمي ولكل الأمهات السلام في يوم الأم وكل الأيام.