حُـــــرْ .. مَـــه !

اخترنا لك

صلاح الدين الدكاك:

إلى جواري ثلاثة مقاعد شاغرة في مؤخرة الباص، وعلى جانب الطريق ثلاثة رجال وإمرأة. توجَّـهت السيدة مباشرة وبعفوية، صوب أحد المقاعد ما إن توقف الباص، لكن صوت السائق الذي انفجر كقذيفة ملتبسة من الحنق والوعظ  و الوقاحة – شلَّ حركتها تماماً، وبدا كمن يتدخل للحيلولة دون وقوع كارثة وشيكة . كان بذيئاً ورعاً ” للغاية ” وهو يدحرج كلماته على رأس الراكبة المرتبكة والعديمة الحيلة: (( إلـين يا حرمة عا تكوِّري – عيب – ما يسبرش تجلسي جمب رجَّـال و..  )) طبعاً كنت أنا (( الرجَّـل )) المقصود بكلامه، وقد شعرت بقرف حيال هذا الفرز البيولوجي المقيت، وحيال جنس الرجال والنساء على السواء !.
– لم يكن السائق – بطبيعة الحال – يذود عن حياض الشرف الرفيع بزمجرته الواعظة المحتدة . كان دافعه أتعس من ذلك بكثير، إذ أن صعود المرأة يعني بالنسبة إليه خسارة ثلاثة ركاب صعدوا فور انسحابها . لقد كان – ببساطة – يذود عن كسرة رزق، بارتداء مسوح الراهب.
– إن العنف الاجتماعي وشلال البصاق اليومي وعلامات الاستفهام التي تفخخ حركة النساء ونشاطهن في المساحات المتاحة قانوناً، يتبدى – عملياً – أكثر سلطة وهيمنة ونفاذاً من كل القوانين النظرية المتخمة بحقوق يصعب الانتفاع منها على أرض الواقع .
إنه دستور غير مدوَّن، يتسع مجال فاعليته ليشمل – على قدم النفوذ والهيمنة – غرفة النوم وغرفة العمليات؛ المطبخ وقاعة المحاضرات، مشغل الخياطة ومقر الحزب؛ و أراهن على أن تمكين المرأة من مقعد آمن – بجوار امرأة أو بجوار رجل – في وسيلة مواصلات عامة، لا يختلف إلى حد كبير – من حيث الصعوبة والأهمية – عن مطلب تمكينها من مقعد في البرلمان . كلاهما يقع تحت طائلة سلطة العنف الغير رسمي الذي يلتهم كل فضاء نظري حديث، تنجح الحركة النسوية في اكتسابه على مستوى القوانين.
أقر بأن الأسوار المفروضة على (( مجتمع الحريم )) تتآكل تباعاً بفعل سيل المستجدات السياسية والاقتصادية، من حولنا لكن فضاء عصرياً لعلاقات جديدة لا يتخلق؛ وهكذا فإن الأسوار تنهار لصالح لا شيء، والسجينات يغادرن إقطاعية رب الأسرة إلى إقطاعية أرباب النفوذ اليومي، وجلابيب الوصاية الخاصة ، إلى جلابيب الوصاية العامة، في سوق لا يبحث عن الأيادي العاملة بل الناعمة، ليستغلها في جلسات المساج، أو ليقطعها تحت مقاصل الوعظ وحراسة الفضيلة.
– وفي مجتمع غير منتج يتدحرج ككتلة تاريخية صماء مصفَّحة، في خضم العصر، لا تحتاج المرأة إلى انجاز انقلاب ذهني في نمط تفكيرها ونسق سلوكها اليومي، لتحظى بقيمة اجتماعية أعلى في التقييم العام، إذ يكفي أن تخلع الطبيبة معطفها الأبيض لتسقط درجتها العلمية وتمطرها بذاءات الباعة والمشاة وسائقي المركبات وزملاء العمل .. إنها محط الإطراء أو الانتقاص، ليس لمزايا ذهنية ومؤهلات علمية دنيا أو عليا، في تقييم المحيط ، بل لكونها امرأة – مجرد امرأة . لذا فإن وصايا الجدات والنساء الخبيرات بالمزاج العام لسلالة شهريار، لايزلن الكنز الأثمن من كل مكتسبات الحداثة بالنسبة لغالبية النساء اللواتي يكتشفن يومياً لا جدوى الدرجات العلمية إزاء (( خلطة الحريو ))، و النظرة الحادة إزاء الأجفان الناعسة، وعبث العمل إزاء مدراء عموم يعبدون (( نؤوم الضحى )) الكسلى المتثنية كخيزران!
– كان سائق الباص خلطة معقدة من أب و زوج و رجل دين وصبي مقهى و ضابط آداب ونخاس لحوم بيضاء، وهو يصرخ في وجه راكبة تتجه صوب مقعد شاغر .. كان كل شيء في مقابل إمرأة ليست شيئاً، احتقن لهيب احتجاج منكسر في عينيها، ولم يترجمه لسانها حتى لا توصف بالــ(( …. ))!

 

أحدث العناوين

Massacre crimes continues in Gaza

The number of martyrs due to the massacre committed by the Israeli occupation forces at dawn today against a...

مقالات ذات صلة