إدوارد سعيد… أسئلة الإبداع والنقد والإزعاج

اخترنا لك

 

“ربما كان المثقف نوعا من الذاكرة المضادة، بخطابها المضاد الذي لا يُمَكّن الضمير من غض الطرف أو النوم”.[1]

في إحدى الحوارات المطولة التي أجراها ديفيد بارساميان (David Barsamian) مع الألمعي نعوم تشومسكي، توقف هذا الأخير عند مفارقة طريفة حصلت له مع طبيب بولندي، كان يعتقد بوجود “تشومسكيين” اثنين: نعوم تشومسكي عالم اللسانيات، ونعوم تشومسكي، المحلل السياسي وأحد أبرز نقاد الإدارة الأمريكية، قبل أن يكتشف الرجل أن الأمر يتعلق بالاسم نفسه.[2]

لم نجد أفضل من هذه الواقعة الدالة في معرض التمهيد للحديث عن هَرم علمي كوني، يحمل اسم إدوارد سعيد، (1935 – 2003) المفكر والناقد والناشط الفلسطيني ـ الأمريكي.[3]

بَدَهي، أن أكبر صعوبة تواجه الأقلام التي تحرر عن أمثال هؤلاء الأعلام،[4] تكمن في اختزال هذه الكتابة/ القراءة، نسقط بشكل مباشر في هذا المأزق المنهجي والأخلاقي في آن بالنسبة مثلا لحالة إدوارد سعيد: فهل نتحدث عن أشهر مفكر عربي دافع عن “أم القضايا” العربية والإسلامية في عقر الديار الأمريكية؟ أم نتحدث عن الهرم العلمي الذي ارتبط اسمه معرفيا بالتأسيس العلمي الرصين لتفكيك النزعة الاستشراقية، وبالتالي أسهم في تغيير طرائق التفكير بالغير/ الآخر، معيدا النظر في علاقة السلطة بالمعرفة؟ أم نتوقف فقط عند أحد الأسماء القليلة التي اجتهدت في تفعيل أولى مهام “مسؤولية المثقف”: قول الحقيقة أمام السلطة؟

أصاب بشكل كبير الكاتب والناقد الأردني فخري صالح، أحد أبرز متتبعي المشروع العلمي للراحل، عندما اعتبر أن إدوارد “مفكر عالمي نجد اسمه ومنجزه حاضرا بقوة في الموسوعات الغربية التي تؤرخ للنقد الأدبي والنظرية وعلوم الأنثربولوجيا ودراسة الغير/ الآخر ونقد الموسيقى، ويصعب اختزاله إلى البعد الجغرافي ومسقط الرأس.

لم يكن إدوارد سعيد مجرد أستاذ للأدبين الإنجليزي والمقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية، ولم يكن فلسطينيا يُثير لغطا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأمريكية والغربية فقط، بل ناقدا وباحثا ومُنَظرا على مستوى الإنسانية، ولهذا [بيت القصيد] تتوالى الكتب والدراسات التي تصدر عنه بعد وفاته”،[5] وبالتالي نرى إصرار البعض على اختزال اسم إدوارد سعيد فقط في ريادته النقدية ضد الاستشراق والمستشرقين، أو في “أسلمة بعض أعماله”، بشكل أو بآخر من طرف التيارات الإسلامية الحركية في شقها المعني بالعمل البحثي، وليس الشق الدعوي أو السياسي أو “الجهادي”.

نقول هذا، ونحن نأخذ بعين الاعتبار مضامين إحدى آخر الأعمال التي تطرقت لمشروع الرجل، والتي اختزلت مشروعه في “نقد الاستشراق” كما يتضح من خلال العنوان[6]، ولكن أيضا من خلال مضامين العمل الذي لا نقزم قطعا من نوعيته، لولا أن إصرار الباحث ـ ومعه المركز الإسلامي المعني بإصدار سلسلة بحثية تُعرف بأعلام الفكر العربي والإسلامي ـ على إسقاط تخصص إدوارد سعيد في النقد الموسيقي، لاعتبارات فكرانية (إيديولوجية) مرتبطة بموقف الحركات الإسلامية من الموسيقى، أمر لا يليق بمشاريع ترفع شعار الإصلاح والنهضة والتحضر، حيث جاءت عناوين فصول العمل كالتالي: سعيد الإنسان، محطات حياة سعيد، البيئة الفكرية لسعيد، مصادر فكر سعيد، إسهامات سعيد الفكرية، الاستشراق، الثقافة والإمبريالية، صورة المثقف، الأنسنية والنقد الديمقراطي، العالم والنص والناقد، تغطية الإسلام، سعيد والقضية الفلسطينية، سعيد… بعيون إسرائيلية، في نقد سعيد.

بسبب هذا الإكراه المنهجي والأخلاقي أيضا،[7] ارتأينا التوقف عند نقاط/ إشارات تسهم في التعريف بهذا الهرم العلمي الإنساني، والعصي على التصنيف والخندقة الهوياتية.

مفكك الاستشراق وملهم خطاب ما بعد الاستعمار:

دخل إدوارد سعيد تاريخ المعرفة من بابه الواسع، عبر ترسيخ اسمه كأحد المراجع الكونية في تناول الظاهرة الاستشراقية، من خلال كتابه المرجعي الأبرز الذي يحمل عنوان “الاستشراق”[8]، وكان ترسيخ سعيد لاسمه في هذا المضمار المعرفي “رأسمالا رمزيا” وازنا في معارك “الاشتباك” الأكاديمي والعلمي التي انخرط فيها الراحل هناك في المجال التداولي الأمريكي، حتى أصبح اسمه ندا علميا لأعلام المعرفة هناك في مكانة علمية قَلما وصل إليها قلم عربي، ولأنه كان فلسطيني الجذور، بحكم أنه ولدفي القدس، فقد أسهم هذا المعطى في تغذية هواجس أقلام اللوبيات الأكاديمية والسياسية الموالية لإسرائيل.

لنُسَلّم بداية أنه لم يعد ممكنا اليوم الحديث عن الاستشراق، دون ذكر اسمه، بالسلب أو بالإيجاب، بحسب المرجعية الفكرانية/ الإيديولوجية للمعنى بتحرير وتقييم نقد إدوارد سعيد للنزعة الاستشراقية، ويكيفه فخرا أنه بفضل كتابه المرجعي “الاستشراق” (Orientalism)، تمكن من أن “يرتقي إلى ذلك النص الذي يرد مرة على العنف المعرفي المقصود للمشروع الاستعماري، مما جعله في أساس التمهيد لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي التي سرعان ما ستسهم في بلورة مقولاتها النظرية وأسسها التصورية، ومن ثم انتشارها، أصوات أخرى قادمة من العالم الثالث”… “تلك الأصوات التي تصر على أن تتكلم في الغرب، وعلى أن تروي حكايتها الخاصة، مكسرة بذلك الفضاء الحبيس الذي يسعى الغرب إلى أن يحصر العالم الثالث فيه كما يقول هومي بهاها في “موقع الثقافة”.[9]

ارتقى سعيد، في سياق “نقد الاستشراق”، بالعالم العربي، المثقل بمظالم الاستعمار وبراثن التخلف إلى مصاف “السؤال العالمي”، خصوصا من ناحية فلسطين التي ولد فيها، والتي ارتقى بها إلى مدار “الفكرة المقلقة”… وكل ذلك بالاعتماد على منظور ثقافي تحليلي ثاقب، برهن فيه على أنه لا مجال للمداورة والمراوغة والمهادنة؛ منظور لا يخلو، في النظر الأخير، من “عنف” هو عنف المثقف النقدي الجدلي الاعتراضي من ناحية، وعنف الملتزم الشاهد على قضيته من ناحية موازية.[10] لقد “كتب إدوارد سعيد، المثقف العميق، عن الثقافة الإنسانية انطلاقا من رؤية شمولية واسعة، وكان عارفا بالعديد من اللغات، قادرا على الكتابة عن الموسيقى والشعر والرواية والمسرح، بارعا في الحوار حول السياسة، ولهذا كان تأثيره في حقول عديدة، من ضمنها الأنثروبولوجيا والنظرية الأدبية وتاريخ الفن وخطاب ما بعد الاستعمار، شديد الوضوح، كما أن تلاميذه الذين لا عد لهم، والباحثين الذين يتأثرون بخطابه في المؤسسة الأكاديمية، وفي تيارات النقد والنظرية، موزعون على جهات الأرض الأربع. لقد غير الرجل طرائق التفكير بالآخر، متجاوزا عمل ملهمه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو”.[11]

سفير عربي ــ فلسطيني خارج التصنيف:

نقرأ لفخري صالح، أن الراحل كان من المشاركين في صياغة إعلان الدولة الفلسطينية الذي عقد في اجتماع الجزائر الشهير، (1988)، بل كان المعني بترجمته إلى الإنجليزية.[12]

تكمن أهمية هذه الشهادة في تأكيد مدى انخراط إدوارد سعيد المفكر والناشط في الدفاع عن “قضيته الأم”، وهو الخيار الذي يقف وراء ثمن باهظ دفعه بسبب مكانه البارز في مشهد القضية الفلسطينية[13]، ولو تطلب الأمر حينها، وصمه بأنه “بروفيسور الإرهاب” من طرف اليمين الديني في الولايات المتحدة، ممثلا في مجلة “كومنتري” (Commentary magazine)، وهي المجلة نفسها التي شنت حملة إعلامية شرسة ضد سعيد مجددا، كان هدفها هذه المرة الرهان على تجريده من مقدسيته، وبالتالي من أصله الفلسطيني. كما تم إحراق مكتبه في كولومبيا، وتلقى هو وأفراد عائلته “تهديدات بالموت لا حصر لها” كما كتب إدوارد نفسه. حَدَث هذا في عز صراعه ـ منذ أوائل التسعينيات ـ مع مرض سرطان الغدد اللمفاوية، وكان يمضي الوقت بين المشافي وخارجها، إما على وشك البدء في دورة من العلاج، أو بصدد الانتهاء منها. وتمكن خلال ذلك كله من الكتابة وإلقاء المحاضرات. إن خصومه يريدونه صامتا، ولكنه يقول في واحدة من المقابلات التي يضمها هذا الكتاب: “ذلك ما لن يحدث إلا إذا مت”.

منذ استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991، أصبح سعيد واحدا من أبرز المناهضين علنا لياسرعرفات، ولما يُسَمَّى بـ”عملية السلام”، وظل صوتا متفردا للمقاومة وسط كل اللغط الذي ساد قبل وبعد توقيع اتفاقية أوسلو[14]، في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في سبتمبر 1993، وغني عن التذكير أن الأعمال الأولى لسعيد، خاصة كتابيه “الاستشراق” و”القضية الفلسطينية” (The question of Palestine) تركت بصمتها على التعريف بالمسألة الفلسطينية، ليس فقط لدى النخبة العلمية والسياسية في الولايات المتحدة، ولكن أيضا لدى النخبة الإعلامية، وبالتالي لدى الرأي العام، مما جعل من سعيد الصوت الفلسطيني الأبرز هناك[15]، وصوتا عربيا مدافعا بشراسة عن هموم وطن عربي برمته، ومع تحفة “الاستشراق”، أصبح متهما بالدفاع عن المسلمين، ولو كان سعيد مسلم الديانة، وهو المسيحي الأصل والمولد، لما ترددت هذه النخب المعادية في اتهامه بـ”الأصولية الإسلامية”، من فرط الأهمية العلمية الوازنة لهذا الكتاب بالذات.

ولعل انقسام الساحة الأكاديمية الأمريكية حول الموقف من القضية الفلسطينية ونظرتها إلى الإسلام، واختلافها عن الرؤية السائدة لدى الإدارة الأمريكية، مرده تحديدا إلى الانخراط النظري والعملي للراحل في هذا المضمار، ولذلك اعتبر “دعاة اليمين الأمريكي المتطرف، في الإدارة الأمريكية والكونغرس، وفي المؤسسة الأكاديمية الأمريكية، ضرورة محاربة الأثر الذي مارسه إدوارد سعيد، بشخصه وكتاباته، على المؤسسة الأكاديمية الأمريكية وعلى مراكز دراسات الشرق الأوسط فيها”.[16]

 

مثقف نقدي مسؤول ومتعدد الاختصاصات:

أسهمت شهرة إدوارد سعيد التي ارتبطت بموضوع الاستشراق، في حجب الأضواء عن تميزه في النقد الموسيقي، وهو مؤلف كتاب “متتاليات موسيقية” (الصادر سنة 1991)، وتميزه الموازي في “تفكيك” كبرى الأزمات السياسية العربية[17]؛ أي أزمة القضية الفلسطينية، حيث كان سعيد بمقالاته ومواقفه ثاقبا على أكثر من صعيد، إن لم نقل إنه سبق زمنه عندما رَوّج لمخرج تأسيس دولة واحدة تضم الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، كما كان مؤثرا على الغير/ الآخر الأمريكي.

تَمَكَّن إدوارد سعيد من اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية التي شيدت على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين، واستطاع أن يحول الأنظار إلى ما هو مهم وحيوي وكوني، وقد قدم لنا مساهمة جليلة في مجال الثقافة شهِدَ العالم له بها، بدءا من محاضراته التي دعي لإلقائها في هيئة الإذاعة البريطانية، وهي سلسلة المحاضرات التي دعي لإلقائها مشاهير العالم من أمثل برتراند راسل، ونُشِرت فيما بعد تحت عنوان “صورة المثقف”، والتي دعا فيها المثقف إلى أن يجهر بالحقيقة في وجه السلطان، وإلى أن يكون المثقف هاويا لا مهنيا، بمعنى أن يكون حرا، إلى كتابه “الثقافة والإمبريالية” الذي أصبح مرجعا مهما في حقول النقد الثقافي.

تتضح ملامح الثقافة الموسوعية عند سعيد بشكل إبداعي في لائحة مؤلفاته[18]، نذكر منها على وجه الخصوص الأعمال التالية: “جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية” (1966)، “بدايات: القصد والمنهج” (1975)؛ “الاستشراق” (1978)؛ “تغطية الإسلام” (1981)؛ “العالم والنص والناقد” (1984)؛ “لوم الضحايا” (بالاشتراك مع كريستوفر هيتشنز، 1988)؛ “متتاليات موسيقية” (1991)؛ “الثقافة والإمبريالية” (1993)؛ “تمثيلات المثقف” (1994)؛ “أوسلو 2: سلام بلا أرض” (1995)، “خارج المكان” (1999)؛ “فرويد وغير الأوروبيين” (2003)[19]؛ “المذهب الإنساني والنقد الديمقراطي” (2004)؛ “حول الأسلوب الأخير: الموسيقى والأدب ضد السائد” (2006)؛ وأخيرا، ضمن سلسلة عريضة من المؤلفات، “الموسيقى على التخوم”. (2008)

من مُميزات الراحل أيضا، تحمله “مسؤولية المثقف”، ولو تطلب الأمر أن يبدأ بالأهل (النخبة الفلسطينية) قبل الجيران في الشرق (النخبة العربية) والغرب على حد سواء (النخبة الأمريكية على الخصوص)، ولتبيان وتبعات تبني إدوارد سعيد هذا الخيار، لا بد من التدقيق/ التذكير التالي : معلوم أن المجال التداولي الأمريكي يَعُجّ بطينة فريدة وغريبة من النخب العربية التي “اجتهدت” في أن تكون أمريكية أكثر من الأمريكيين أنفسهم، هؤلاء لديهم قابلية التطاحن في “بورصة القيم والأخلاق”، ينتمون إلى صنف اصطلح عليه الناشط الباكستاني الشهير طارق علي بـ”عرب البيت” [الأبيض]، إنها “شخصيات تحتاجها الإمبراطورية وتربيها الأكاديمية، ممن يسعون إلى إرضاء الإمبراطورية وخدمة حاجاتها، وهم عديمو الحياء تماما في كيفية إذلال أنفسهم أمام الإمبراطورية. فهؤلاء الرجال يقولون أمورا يُفكر فيها كثير من الأمريكيين دون أن يجرؤ الآخرون على الجهر بها، وتلك هي قيمة “عرب البيت” [الأبيض]: إنهم مستعدون للجهر بمشاعر يفضلها أمريكيو الطبقات الحاكمة وأمريكيو المؤسسة الحاكمة”.[20]

من سوء حظ هذه الطينة من الأقلام، أن إدوارد سعيد لم يكن منتميا إلى التيار الذي تمثله، والذي يحظى بالدعم والدعاية والتبني غير المباشر أو الضمني من قبل مؤسسات هناك، ولذلك تعرض للعديد من حملات التشويه والشيطنة، أكاديميا وسياسيا وإعلاميا.

في التفاعل العربي مع تراث سعيد من “الأفكار الطولى”:

مُهم جدا التنويه بلائحة من الأسماء النقدية العربية التي أسهمت في ترويج أعمال إدوارد سعيد، وبالتالي كسر جدار التهميش والتقزيم، ونقض بعض الممارسات الثقافية المسيئة للمعرفة في مجالنا التداولي الإسلامي العربي، وفي مقدمتها الإقصاء والنفي المتبادل، وترويج خطاب “أنا المُنظّر الأول”، “صاحب السبق المعرفي”… إلخ؛

فمن أهم مترجم أعمال الراحل، الناقد السوري كمال أبو ديب، الذي ترجم “الاستشراق” (1981) و”الثقافة والإمبريالية” (1997) إلى الناقد والباحث السوري صبحي حديدي[21]، مرورا عبر أعمال الكاتب والناقد الأردني فخري صالح، والناقد والمترجم المغربي إسماعيل العثماني، وغيرهم بالطبع، اطلع المتلقي العربي على أغلب أعمال إدوارد سعيد مترجمة للعربية. أما الإقصاء والتهميش و”الرغبة في دفن سعيد، وهو حي”، فكانت أبرز علامات تعامل العديد من النخب الثقافية والإعلامية هناك في المجال التداولي الأمريكي.

نقول هذا، ونحن نستحضر حالة مرضية أقرب إلى “الانقسام” التفاعل (الثقافي والإعلامي) مع الحملة الإعلامية المسعورة التي انخرط فيها اليمين الأمريكي المتطرف ضد إدوارد سعيد في أكثر من مناسبة، لعل أخطرها كما سلف الذكر، تلك الحملة التي استهدفت التشكيك في فلسطينيته، ونتحدث عما يُشبه “الانقسام”، بحكم أن التفاعل انحسر بين المدافعين عن الراحل بشكل صريح وواضح[22]، وبين المتجاهلين، من المنتمين إلى تيارات الحصار أو الذين يرفعون شعار: “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”.

في معرض تقييم مؤلفات ودراسات الناقد البحريني محمد أحمد البنكي (1963- 2010)، استشهد الناقد البحريني نادر كاظم بما وصفه الراحل إدوارد سعيد بـ”الأسلوب الأخير” (أحد عناوين سعيد المنشورة بعد وفاته)، حيث يقرأ سعيد كيفية تعامل كبار المفكرين والكتاب والموسيقيين مع مسألة موتهم الوشيك والمراحل الأخيرة من حياتهم، وكيف يظهر أثر ذلك في أعمالهم الأخيرة، والتي غالبا ما تمتاز بالتناقض والضدية والصعوبة والانقطاعية وعدم الوصول إلى النهاية”[23]، بما يُحيلنا على قلاقل مفهوم الهوية عند الراحل، وهو المُنَظر لمفهوم “الهجنة”، أو “الهوية المُهَجنة” (identité hybride)، بحكم انتصاره لإنسانية الإنسان، قبل الانتماءات الدينية أو العرقية أو الثقافية أو الفكرانية، ولعل هذا الشعار يُفسر نفور العديد من الأصوليات (الدينية والقومية) في الساحة العربية على الخصوص من مشروع الراحل، لأنه رفض الانضمام إليها، ناهيك عن رفعه شعار “مسؤولية المثقف” بالصيغة التي مارسها عمليا، هناك في المجال التداولي الأمريكي، فكيف يخون الشعار ذاته في “المزارع العربية” الأورويلية[24]، وإن كنا نعتقد أن ترويج الراحل لأطروحة “الهوية المُهَجنة” يندرج في سياق “مراجعات” داخل النسق النقدي الماركسي، بحكم النكسات الميدانية التي كرستها “التطبيقات الماركسية” على قدر الواقع، وبحكم نهل سعيد الفكراني من مرجعية ماركسية في أولى محطات تكوينه المعرفي الذي امتد لعقود، وتحديدا، نهله وتأثره بأنطونيو غرامشي، (مروج أطروحة “المثقف العضوي”)، فريدريك نيتشه (صاحب “أفول الأصنام”)، ميشيل فوكو (ناقد ومفكك جدلية السلطة والمعرفة)، جوليان بندا (مؤلف تحفة “خيانة المثقفين”)، وغيرهم كثير بالطبع.

ولعل إجابة الراحل على أهمية “إحياء الماركسية”، كما جاءت على لسان ناقد ماركسي متمكن ورصين، وهو أيضا صديق الراحل، تُغذي أحقية الحديث عن مراجعات نقدية في الدائرة الفكرانية الماركسية.

يقول سعيد: “ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية، كمسألة سياسية وأكاديمية، ذات صلاحية، في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية، والبيئة، والقومية، والدين، وسواها من المسائل. هذا تحدي رئيس، كما أعتقد، وهو عندي سؤال مفتوح، حول ما إذا كان من الممكن القيام به أم لا. وأجد نفسي معنيا بالسؤال، على نحو جدّي، ومشدودا للغاية إلى النموذج الذي أرساه أشخاص، مثل غرامشي ووليامز. السؤال أيضا: أما يزال هؤلاء صالحين اليوم؟ وجوابي الحدسي هو: أكثر من ذي قبل”.[25]

ولعل أحداث الساعة التي تحمل عنوان “الربيع العربي”، تسهم في رد الاعتبار لأمثال إدوارد سعيد من عدة أبواب، أهمها أن وجود أمثال سعيد، كان كفيلا بمساعدة المتلقي والمتتبع العربي على فهم ما يجري، وثانيا، أن أغلب أنماط الصراعات السائدة في المنطقة العربية، لم تخرج عن أنماط الصراعات التي انتقدها بشدة في معرض نقده أطروحة “صدام الحضارات” للراحل صامويل هنتنغتون، عندما تحدث عن “صدام الجهالات” (The clash of ignorance)[26]، قاصدا بذلك ـ حينها ـ جهالة جورج بوش الابن، وجهالة أسامة بن لادن، وهي الجهالات نفسها، على ما يبدو، التي تتصارع اليوم في منطقة عربية موبوءة بالفتن التي ترفض الحديث عن “الهوية المُهَجنة” كما دافع عنها إدوارد سعيد، من باب تقليل حجم الخسائر، في الهوية والذات والأرض والأوطان.


*مجلة يتفكرون، العدد 2، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، خريف 2013

[1]– إدوارد سعيد، الدور العام للكتاب والمثقفين، فصلية الكرمل، العدد 68، صيف 2001، ص 26

[2]– سبق لديفيد بارساميان، المحاوِر الإعلامي الكبير، أن حاور إدوارد سعيد، وصدر العمل مترجما للقارئ العربي تحت عنوان: “إدوارد سعيد: الثقافة والمقاومة”.

انظر: إدوارد سعيد: الثقافة والمقاومة، حاوره ديفيد بارساميان، ترجمة علاء الدين أبو زينة، مراجعة محمد شاهين، دار الآداب، بيروت، 2006

في تقديمه لهذا الكتاب، يذكر لنا ديفيد بارساميان أن السؤال الأول الذي استقبله به إدوارد سعيد في مكتبه بجامعة كولومبيا كان: “هل لديك أسئلة وجيهة”؟ ثم يذكر لنا أن التوتر الذي كان يعتريه قبيل لقائه بمضيفه قد تبدد واختفى، فقط عندما ألقى بارساميان مقاطع من شعر محمود درويش، حينئذ فقط انطلق في الحديث الذي انتهى إلى إجابات تلقائية، من دون مراجعة للأسئلة أو إجراء تمرينات عليها.

انظر نص العرض الذي أنجزناه في هذا الكتاب القيم تحت عنوان: “في متعة التوفيق بين الثقافة والمقاومة عند إدوارد سعيد”، ونشر في مجموعة من المنابر الإعلامية، المغربية والعربية (“الصحراء”، الدار البيضاء، “القدس العربي”، لندن،)، أو في بعض المواقع الإلكترونية، منها الرابط التالي: www.alasr.ws/articles/view/13448

[3]– جاءت أهم محطات ترحال إدوارد سعيد بين مسقط رأسه القدس، ومقر إقامته وإبداعه، جامعة كولومبيا الأمريكية، في سيرته الذاتية التي تحمل عنوان “خارج المكان”، وصدرت عن دار الآداب، بيروت، ط 1، 2000، ترجمها للعربية فؤاد طرابلسي.

[4]– نقرأ للكاتب والباحث الأردني موسى برهومة في هذا الصدد، أن الكثير ينظرون “إلى المخزون المعرفي لدى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد على أنه أكبر وأشد اتساعاً من أن تحيط به الكتابة، تماماً كبيتهوفن الذي كان لديه مخزون من الموسيقى، عجزت النوتة الموسيقية عن الوفاء له أو التعبير عنه”، مضيفا أنه “إذا كانت السيمفونية التاسعة، كما أورد سعيد على لسان فاغنر، تتحدى صمت النهاية، فإن منجزات المفكر الفلسطيني تتحدى غيابه الفيزيائي، وتطل شاهقة بروحها = الإنسانية ولسانها الكوني، وقدرتها على إثارة جدل لا ينتهي، على الرغم من أن غياب إدوارد جعل العالَم العربي وأمريكا “أكثر فقراً” على حد تعبير الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان”.

انظر: موسى برهومة، إدوارد سعيد: المثقف دائم الانشقاق، موقع مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث” (www.mominoun.com)، مقالة مؤرخة في 14 يوليو 2013

[5]– فخري صالح، إدوارد سعيد: دراسة وترجمات، الدار العربية ناشرون، بيروت ـ منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 2009، ص 7

[6]– انظر: خالد سعيد، إدوارد سعيد ناقدُ الاستشراق: قراءة في فكره وتراثه، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي، بيروت، ط 1، 2011

[7]– نقصد بـ”المأزق الأخلاقي” مقامرة “اختزال” شخصية ومشروع وأداء إدوارد سعيد في هذه المقالة.

[8]– إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمه للعربية كمال أبو ديب، ط 1، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981، (صدرت النسخة الأصلية بالإنجليزية عام 1978)، وصدر للراحل أيضا، كتاب “الثقافة والإمبريالية” (ترجمة وتحقيق كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، سنة 2004)، ويعتبر تتمة لما جاء في “الاستشراق”.

[9]– يحيى بن الوليد، الوعي المُحَلّق.. إدوارد سعيد وحال العرب، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2010، ص 120

يمكن العودة إلى قراءات وشروحات الناقد والباحث صبحي حديدي لرؤى إدوارد سعيد حول أطروحات خطاب “ما بعد الاستعمار” (Postcolonial Studies) كما صدرت على الخصوص في فصلية “الكرمل” الفلسطينية ويومية “القدس العربي” اللندنية وموقع “الحوار المتمدن”.

[10]– يحيى بن الوليد، مرجع سابق، ص 11

[11]– فخري صالح، إدوارد سعيد: دراسة وترجمات، مرجع سابق، ص 12

[12]– فخري صالح، إدوارد سعيد: دراسة وترجمات، مرجع سابق، ص 7

[13] أو “القضية المعيار” على حد تعبيره في كتاب “تأملات في المنفى”، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2004، ص 41

[14] أدرك إدوارد سعيد على الفور معنى اتفاقية أوسلو وأسماها “فرساي الفلسطينية”، وهو الذي قال لمحمد شاهين مُعلِّقا على ذلك الحدث: “كان كلينتون أشبه بإمبراطور روماني يجلب ملكين تابعين من ملوك الإقطاعيات إلى بلاطه الإمبراطوري ويدفع بهما إلى التصافح”.

[15]– بالرغم من وجود مفكرين فلسطينيين كبار هناك، وفي مقدمتهم الراحل هشام شرابي.

[16]– فخري صالح، إدوارد سعيد: دراسة وترجمات، مرجع سابق، ص 29

[17]– على الأقل قبل حقبة اندلاع ما اصطلح عليه بأحداث “الربيع العربي” في غضون 25 يناير 2011

[18]– أورد الناقد والباحث يحيى بن الوليد ملحقا بأعمال إدوارد سعيد في كتابه سالف الذكر، تحت عنوان: “إدوارد سعيد عربيا. بيبليوغرافيا تقريبية”، وتضمن 29 كتابا للراحل، معتمدا خصوصا على “دليل بيبليوغرافي لإدوارد سعيد” أعدته ياسمين رمضان، والمنشور ضمن ملف “إدوارد سعيد والتقويض النقدي للاستعمار” (مجلة ألف العدد 25، 2005، ص 240 ـ 242)، و”بيبليوغرافيا إدوارد سعيد” الذي ذيل بها جمال محمد مقابلة مقالة “الناقد الإنسي لدى إدوارد سعيد”، المتضمن في كتاب “تحولات الخطاب النقدي العربي المعاصر” (ص54 ـ 55). كما أورد فخري صالح بالطبع، لائحة بأهم أعماله في مقدمة فصل “ملامح المشروع الفكري لإدوارد سعيد” من كتابه سالف الذكر. (ص 15 ـ 16)

[19]– نحن “إزاء استثمار راهن، موجه للقارئ الغربي الذي تربطه جذور ثقافية مع اليهود وفرويد كذلك، لنظرة عالم النفس النمسوي لإلقاء ضوء كاشف على أشكال سحق الهوية التي تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين، وعلى محاولات علم الآثار اليهودي إضفاء هوية يهودية خالصة على أرض فلسطين. ويشير سعيد إلى أن فكرة فرويد عن الهوية اليهودية، التي انفتحت في يوم من الأيام على الهويات الأخرى، بل إنها تشكلت منها كذلك، تصلح لمخاطبة هويات أخرى محاصرة أيضاً “لا من خلال توزيع مهدئات مثل التسامح والتعاطف، بل بمقاربة تلك الهويات بصفتها جرحاً دنيوياً ملتهباً باعثاً على الشلل وعدم الاستقرار”.

انظر: فخري صالح، إدوارد سعيد في كتابه الأخير، الحياة، لندن، 27 سبتمبر 2003

[20]– يضيف طارق علي، أن “عرب البيت” [الأبيض] يجدون موقعهم الملائم في الإعلام الأمريكي لأنه إعلام يبحث عن أشخاص لكي يثبت أن هناك عربا يقفون في “الصف الأمريكي”، ولسان حال هذا الإعلام: أنظر ما أذكاهم، إنهم “أذكياء” لأنهم يقولون ما يريد الناس ـ في المؤسسة الغربية الحاكمة ـ سماعه، إنهم مُفيدون ولذا ينبغي استعمالَهم”.

انظر: طارق علي: عن الإمبراطورية والمقاومة، حاوره دايفيد بارساميان، ترجمة سماح إدريس، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2006

سبق أن أنجزنا عرضا في الكتاب، ونشر في بعض المنابر الورقية والرقمية، منها الرابط التالي تحت عنوان: “طارق علي مفككا جدلية “الإمبراطورية والمقاومة”.

www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=66351

[21]– من أعمال إدوارد سعيد التي ترجمها صبحي حديدي للعربية، نتوقف خصوصا عند “تمثيل المستعمَر”، (“الكرمل” الفلسطينية، العدد 44، 1992)، وأيضا “تعقيبات على الاستشراق”، (Afterwards to Orientalism) والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996

[22]– ننوه هنا على الخصوص بكتاب فخري صالح: دفاعا عن إدوارد سعيد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2000

[23]– نادر كاظم، أسلوب محمد البنكي الأخير، إرجاء مغاير، دراسات حول اشتغالات محمد أحمد البنكي النقدية، تحرير رنده فاروق، منشورات مؤسسة الدوسري للثقافة والإبداع، نشر الكتاب ضمن سلسلة أطياف، مملكة البحرين، وزارة الثقافة، ط 1، 2010، ص 124. وشاركت في هذا العدد/ الكتاب الاحتفالي الأسماء التالية: محمد شوقي الزين، عبد السلام بنعبد العالي، عبد الله بريمي، علي حرب، عبد الله الغذامي، ضياء الكعبي، إدريس الخضراوي، حسام نايل، نادر كاظم، محمد جودات، سمير مندي وحسام نايل.

[24]– الإحالة هنا على رائعة الروائي البريطاني جورج أورويل: “مزرعة الحيوان” (Animal Farm)، والتي رغم أنها مُحررة في غضون 1947، تكاد تنطبق بعض وقائعها على أوضاع الساحة العربية، مباشرة بعد اندلاع أحداث “الربيع العربي”.

[25]– انظر: صبحي حديدي، ماركسية إدوارد سعيد، موقع دروب، مقال مؤرخ في 2 أكتوبر 2008

أورده خالد سعيد، إدوارد سعيد ناقدُ الاستشراق، مرجع سابق، ص 75

[26]– Said, Edward, (2001, October 22), The clash of ignorance, The Nation, 273 (12), 11-13

* مؤمنون بلا حدود

أحدث العناوين

صنعاء| كيف كان المشهد في ميدان السبعين في أول مسيرة جماهيرية بعد رمضان

تحت الأمطار الغزيرة، خرجت مسيرات حاشدة في العاصمة صنعاء وعدة محافظات يمنية أخرى، تأكيدا لاستمرار الدعم اليمني للشعب الفلسطيني،...

مقالات ذات صلة