عن الحضارة والبربرية والإرهاب

اخترنا لك

حسين أبو هنيبة:

الهوية البربرية

لا جدال بأن الإبستمولوجيا العمومية تتموضع في صلب نسيج شائك ومعقد من تقاطع الاهتمامات والمباحث المتنوعة بأهدافها ومناهجها فالتقليد الفلسفي قديما وحديثا عمل على صياغة نظريات عامة عن المعرفة تتناول مختلف أنماط المعارف وأصولها ومنابعها العقلية والخيالية والتجريبية وغيرها وتتوافر كافة هذه المساهمات على صلات مرتبطة غالبا بمفاهيم متخمة بنزعة دوغمائيية حينا وإمبريالية في أغلب الأحيان.

 

في هذا السياق يمكن فهم نشأة تاريخ خطاب البربرية في مواجهة الحضارة إبان القرن التاسع عشر الذي شهد حملات استعمارية متعددة قامت بها دول أوروبية وفي مقدمها إنكلترا وفرنسا وإيطاليا على بلاد عربية شتى، فقد عمد المفكرون في العصر الاستعماري إلى صياغة خطاب دوغمائي إمبريالي لتبرير الاستعمار متلبسا بوجهة نظر أخلاقية من خلال ابتداع نظرية “عبء الرجل الأبيض” والتي تقوم على وجوب تحمل المسؤولية التاريخية التي تقع على عاتق البيض لترقية وتحضير البرابرة من سكان الدول التي خضعت للاستعمار الأوروبي والذين هم بطبيعة الحال ليسوا أوروبيين وليسوا بِيضاً.

 

 

يكشف ريموند وليامز في كتابه الفريد “الكلمات المفاتيح” جذور الإبستمولوجيا الإمبريالية الدوغمائية لتاريخ خطاب الحضارة والبربرية فكما هو شأن الثقافة التي تفاعلَتْ معها طويلا وإن ظل تفاعلا عسيرا كانت “الحضارة” تشير في الأصل إلى عملية جارية ومستمرة ولا يزال هذا المعنى الضمني قائما في بعض السياقات، وقد حَدَّدَ زمن ظهور المعنى الحديث للحضارة Civilization في الإنجليزية بثلاثينيات القرن التاسع عشر بينما سوف يظهر استخدام المصطلح بصيغة الجمع خلال الستينيات من القرن نفسه كنقيض للبربرية والهمجية.

 

هكذا سوف يصبح مفهوم الحضارة معيارا أساسيا في تصوير وتقييم وتقويم تاريخ العرب وثقافتهم من الخارج أو بأيدي العرب أنفسهم بحسب جوزيف مسعد والذي سوف يتحدد بناء على نقيضين كما بيّن رينهارد شولتزه الذي وضح بأن ثنائيتي الانحطاط/النهضة والتقاليد/الحداثة سوف تحددان ذلك التصوير باعتبارهما “الأساس الذي يقوم عليه مفهوم للتاريخ الثقافي يعكس بطبيعة الحال التفسير السياسي الأوروبي لتيار التطور التاريخي في القرن التاسع عشر”.

 

 

وقد كان استلهام تلك المعرفة (الإبستمولوجيا) الزمانية وثيق الصلة بالاستعمار وقرينه الاستشراق إذ كان الأوروبيون هم من “اكتشف” انحطاط العرب بل إن نابليون حاول إضفاء المشروعية على غزوه مصر سنة 1798 قائلا إنه قلِق على البلاد من الهمجية والانحطاط اللذين وصلت إليهما على أيدي الأتراك.

 

 

لقد رأى الأوروبيون كما بيّن جوزيف مسعد في كتابيه “اشتهاء العرب” و”الإسلام في الليبرالية” أن “العالم الإسلامي هو الآخر اكتسب ثقافة” بفضل السياسات الاستعمارية التي استهدفت تحديث البرابرة وإن احتفظ في الوقت نفسه بالكثير من التقاليد أو”اللا ثقافة” لكن كما يوضح شولتزه “فيما كان مفهوم الثقافة يُعمَّم تدريجيا في أوروبا ويؤدي إلى تطوّر مفهوم عالمي تحليلي فقد رُبطت التقاليد الإسلامية بالثقافة ومع ذلك فجوهر الفصل بين الانحطاط التقليدي والنهضة الحديثة لم يتغير، وهكذا فإن النظرة الأوروبية إلى العالم هي التي حددت الهوية الإسلامية.

 

 

تتكشف الأسباب الكامنة وراء صياغة خطاب “البربرية والحضارة” بحسب الباحثة إيلين سبرنغ باعتباره كان في الواقع تغطية للحروب الإمبريالية التي قامت بها الدول الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر نتيجة للتنافس في ما بينها من ناحية وتحت تأثير الضغوط الاقتصادية داخل هذه البلاد بالإضافة إلى رغبتها في غزو البلاد المستعمَرة بحثاً وراء الفوائد الاقتصادية ومن أجل نشر ديانتها وثقافاتها ولو أدى ذلك إلى محو الهوية الوطنية لبعض البلاد المستعمَرة.

 

 

عقب مائة عام على محاولة نابليون إضفاء المشروعية على غزوه مصر سنة 1798 وفق منظورات “الحضارة والبربرية” كانت السياسات الأوروبية قد أصبحت أكثر وقاحة وبادية للعيان إذ تلخص قصيدة الشاعر اليوناني المصري قسطنطين كفافي (1863 ــ 1933) بعنوان “في انتظار البرابرة” والتي كتبها سنة 1898 المشهد بطبائعه الفجة مع انكشاف ضرورة اختراع “البرابرة” لبقاء “الحضارة” وتأمين السيطرة داخل الفضاء الأوروبي وتبرير الغزو للعالم غبر الأوروبي والتي يختتمها بالأسئلة الصعبة:

 

 لماذا أخذ كل واحد يشعر بالضجر؟

لأنّ الليل أتى والبرابرة لم يصلوا.. ولأنّ بعضَ الناس جاء من الحدود، وقال لا برابرة سيأتون بعد اليوم. والآن، ما الذي سيحدث لنا من دون البرابرة؟ من ناحية كانوا صيغـةَ حلٍّ

عقب نهاية الحقبة الكولينالية ونشوب الحرب الباردة سوف يتوارى إلى الظل خطاب “البربرية والحضارة” والذي ساد طوال العصر الاستعماري، لكن مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي وبروز العولمة بقيادة القطب الأمريكي الأوحد سوف يظهر خطاب “البربرية والحضارة” من جديد بعد بروز تنظيم القاعدة وتأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال الولايات المتحدة وإسرائيل” سنة 1998 وتنفيذ هجمات كينيا وتنزانيا وذلك عقب مرور مائتي عام على حملة نابليون ومائة عام على قصيدة كفافي، وسوف يتنامى ذات الخطاب إثر هجمات تنظيم “القاعدة” على الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

 

 

خطاب الحضارة والبربرية والثقافة والإرهاب الجديد القديم سوف يتكاثر مع بروز واقع دولي جديد ويهيمن على النقاش والجدل السياسي عقب ظهور مقالة صموئيل هنتنغتون “صدام الحضارات؟” في مجلة “الـفورين أفيرز” صيف عام 1993 حين تقرر في جملتها الأولى أنَّ “السياسة العالمية تدخل طورًا جديدًا” وقد عنى بذلك أنَّه في حين كانت الصراعات التي شهدها العالم في الماضي القريب تدور بين اتجاهات إيديولوجية تضع العوالم الأول والثاني والثالث في معسكراتٍ متحاربة.

 

“النظرة الاستعمارية القديمة تعيد بعث نفسها في خطابات “جورج بوش” التي تتحدث عن العالم المتحضر مقابل العالم البربري وأن الحضارة الغربية مستهدفة من قِبل المتوحشين غير المتحضرين”

فإنَّ أسلوب السياسة الجديد يقتضي صراعاتٍ بين حضارات مختلفة ويُفْتَرَضُ أنَّها متصادمة: “فالانقسامات الكبرى بين البشر سوف تكون انقسامات ثقافية وكذلك المصدر الأساسي للصراع.. صدام الحضارات سوف يسيطر على السياسة العالمية”.

 

ويوضح هنتنغتونأنَّ الصدام الأساسي سوف يكون بين الحضارة الغربية والحضارات غير الغربية بل إنه يكرِّس معظم مقالته لمناقشة نقاط الاختلاف الأساسية سواء كانت موجودة بالقوة أم بالفعل بين ما يدعوه الغرب من جهة أولى والحضارتين الإسلامية والكونفوشية من جهة أخرى، وأمَّا من حيث التفاصيل فهو يولي الإسلام قَدْرًا من الاهتمام لا يضاهيه اهتمامه بأيِّ حضارة أخرى، بما في ذلك الغرب كما بيّن إدوارد سعيد.

 

 

بحسب سعيد فإنَّ قَدْرًا كبيرًا من الاهتمام اللاحق بمقالة هنتنغتون وبالكتاب العقيم والثقيل الذي تلاها عام 1995 قد نَجَم عن التوقيت الذي ظهرت به وليس عمّا تقوله على وجه التحديد، فمنذ نهاية الحرب الباردة وكما يشير هنتنغتون نفسه، جرت محاولات فكرية لرسم خارطة الوضع العالمي الناشئ ومن بين هذه المحاولات وجهة نظر فرانسيس فوكوياما بشأن نهاية التاريخ والأطروحة التي قُدِّمَت في الأيام الأخيرة من إدارة بوش أو نظرية ما دُعيَ بـ “النظام العالمي الجديد” ومؤخَّرًا قام كلٌّ من بول كينيدي وكونور كروز أوبراين، وإريك هوبسباوم بالشيء ذاته.

 

 

يشدد سعيد على أنه من الضروري بالمطلق أن نؤكِّد على أنَّ صموئيل هنتنغتون مثل برنارد لويس لا يكتب نثرًا حياديًا وصفيًا وموضوعيًا بل هو طَرَف متحيِّز لا تكتفي بلاغته بالاتكاء الزائد على سجالات سابقة حول حرب الجميع ضد الجميع بل تتعدى ذلك إلى تأييد هذه الحرب في حقيقة الأمر، وبذلك لا يكون هنتنغتون حَكَمًا بين الحضارات بل متحزِّبًا يدافع عمّا يدعوه حضارة محدَّدة في مواجهة جميع الحضارات الأخرى، وهو يعرِّف الحضارة الإسلامية عن طريق الاختزال مثل لويس كما لو أنَّ الشيء الأهمَّ في هذه الحضارة هو عداؤها المزعوم للغرب، ولذلك فهو يكتب كمدير لأزمة لا كدارس للحضارة ولا كموفِّق بين الحضارات.

 

 

“الغرب لا يرى في المسلمين أكثر من مشاريع إرهابيين أو مزودي نفط، ومعرفة الغرب بالشعوب الإسلامية ليست وليدة الهيمنة والمواجهة فحسب، وإنما أيضاً ثمرة لثقافة كراهية غريزية”

 

في كتابه “العرق والتاريخ” ينتقد كلود ليفي شتراوس استخدام “الحضارة الغربية” لفظ متوحش أو بربري باعتبارها تقوم على نظرة مركزية أوروبية تستبطن نزعة تفوق عنصرية ويشدد على أنه ليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى، ويخلص إلى القول: “البربري هو من يؤمن بوجود البربرية”.

 

 

لكن تزفيتان تودوروف في كتابه “الخوف من البرابرة : ما وراء صدام الحضارات” لا يذهب إلى حد نفي البربرية كحالة كما يقول شتراوس بل على العكس من هذا يرفض تودوروف عبارة شتراوس ويؤكد على وجود البربرية، لكنه يحددها بمحددات واضحة، فالبربرية حسب تودوروف هي حالة نفي إنسانية الآخر وهي وصف لوضعيات وأعمال – كما الحضارة تماما – أي أنها لا تعطي توصيفاً ثابتاً للإنسان أو وصفاً جوهرانياً لهوية الشعوب.

 

 

وفي ملاحظة طريفة تفسر جملة من الأحداث حولنا يشير تودوروف إلى أن “الخوف من البرابرة هو الذي يُخشى أن يحولنا إلى برابرة” حيث يحدد الخوف كمبرر لارتكاب أبشع الجرائم في حق البشرية باسم حماية الإنسان لنفسه أو من يحب من الآخرين، وكيف تحول هذا المبرر إلى أفعال قتل وتعذيب وجرائم ضد الإنسانية، وبهذا يحدد تودوروف معنى التحضر بأنه الإقرار بإنسانية الآخر.

 

خطاب الحضارة والبريرية المعاصر يعيد إنتاج الخطابات الاستعمارية القديمة بأبشع صورها ففي كتابه “البرابرة والحضارة في العلاقات الدولية” يؤكد مارك سولتر على أن الفكرة الكولونيالية التي سادت إبان قرون التمدد الأوروبي في آسيا وإفريقيا والتي تستند إلى تقرير فاسد بأن هناك أوروبا المتحضرة وهناك بقية العالم المتخلف أو البرابرة قد عادت إلى السطح مرة أخرى.

 

ويوضح بأن تقسيم العالم إلى متحضرين وبرابرة هو جانب أساسي من أطروحة صموئيل هنتنجتون، ويؤكد على أن النظرة الاستعمارية القديمة تعيد بعث نفسها في خطابات “جورج بوش” التي تتحدث عن العالم المتحضر مقابل العالم البربري وأن الحضارة الغربية مستهدفة من قِبل المتوحشين غير المتحضرين.

 

 

في سياق الكشف عن الأبعاد المعرفية والسياسية والإمبريالية لخطاب الحضارة والبربرية والإرهاب لاحظ إدوارد سعيد أن الإرهاب أصبح بمثابة ستار تمت صناعته منذ نهاية الحرب الباردة على أيدي صناع السياسة في واشنطن حيث تم فبركة المسألة لإبقاء السكان خائفين غير آمنين ولتبرير ما ترغب الولايات المتحدة فعله على سطح الكوكب.

 

 

وبهذا، فإن أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة سواء تمثلت بالنفط أو بمصالحها الجيوستراتيجية في أي مكان آخر أصبح يوصم بالإرهاب، ويؤكد سعيد على أن كل تاريخ الإرهاب يجد جذوره في السياسات التي انتهجتها الإمبريالية فقد استخدم الفرنسيون كلمة “الإرهاب” لوصف كل شيء قام به الجزائريون لمقاومة الاحتلال الفرنسي كما استخدم البريطانيون الفكرة ذاتها في كل من بورما وماليزيا، وقد خلص سعيد إلى تعريف طريف ودقيق للإرهاب بحيث يصبح “هو أي شيء يقف في وجه ما نرغب “نحن” في فعله”.

 

 

إن خطاب الحضارة والبربرية والثقافة والإرهاب لا فكاك منه وهو يهيمن على منظورات الصراع والصدام في ساحة الحرب العالمية على الجغرافيا العربية الإسلامية اليوم

على الرغم من الخطابات البلاغية المتواترة من سدنة الإمبريالية والدكتاتورية بالتفريق بين “الإسلام” و”الإرهاب”، إلا أن سياسة الحرب على الإرهاب مشبعة بالأثر الاستشراقي الجامع بين المفهومين عبر التسمية الاستشراقية الرائجة حول “الإرهاب الإسلامي فالغرب كما يشدد إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام”: “لا يرى في المسلمين أكثر من مشاريع إرهابيين أو مزودي نفط.. ومعرفة الغرب بالإسلام والشعوب الإسلامية ليست وليدة الهيمنة والمواجهة فحسب، وإنما أيضاً ثمرة لثقافة كراهية غريزية”.

 

 

وبهذا فإن “الإرهاب” يتحول إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي ومفروض وغير مفترض، فسلطة القوة الانتقائية هي من تحدد هوية الإرهابي وكينونته فالإرهاب كما بيّن جوزيف مسعد في كتابه “ديمومة المسألة الفلسطينية” اسمٌ غير مفترض وإنما مفروض دائما؛ فالمفهوم التصنيفي الذي يحوله من ممارسة إلى هوية مفهومُ خاص لا يتسم بالتعميم.

 

 

خلاصة القول إن خطاب الحضارة والبربرية والثقافة والإرهاب لا فكاك منه وهو يهيمن على منظورات الصراع والصدام في ساحة الحرب العالمية على الجغرافيا العربية الإسلامية اليوم وهكذا لا نشهد سيادة إيستمولوجيا دوغمائية إمبريالية تتلاعب بالكلمات والمصطلحات عبر الحركات البهلوانية بانتقال من الحديث عن صراع وصدام الحضارات وحديث الثقافة إلى الرطانة حول صراع وصدام القيم مع البربرية وحديث الأخلاق.

 

 

وهكذا فإن المأزق الذي وجدت الرأسمالية العالمية نفسها فيه وورطتنا في ألعابه كيف يمكن الفكاك منه؟ لقد اقترح فردريك جمبسون مؤخراً حلا راديكاليا يقوم على اقتراح العسكرة العالمية للمجتمعات كسبيل للتحرر فالحركات القاعدية ذات الدوافع الديمقراطية تبدو محكوماً عليها بالفشل، ومن ثم قد يكون الأفضل كسر دائرة الرأسمالية العالمية المفرغة عن طريق “العسكرة” وهو ما يعني إيقاف قوة الأنظمة الاقتصادية ذاتية التنظيم، فهل يفسر ذلك سر جاذبية القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامي؟.

 

*باحث أردني

 

الخبر اليمني/أبجدية

أحدث العناوين

ضابط في البحرية الأمريكية يكشف تفاصيل معضلة بلاده في اليمن

قال الضابط السابق في البحرية الأمريكية جيمس دوروسي إن بلاده تواجه معضلة استراتيجية حيث تخسر في أول نزال بحري...

مقالات ذات صلة