أما في الشمال، فالبدايات غامضة ومشتتة. كتاب «حركة المعارضة اليمنية» صور بعمق وموضوعية هذه البدايات المفككة والمتعثرة في غير منطقة: صنعاء، تعز، إب. وهناك أكثر من مسمى وأكثر من تشكيل. صدور مجلة «الحكمة 1938- 1941» هي التجلي الأبرز لنشأة الخطاب الإسلامي والأدبي والثقافي المغاير والمختلف، وهي المؤشر الأهم لولادة معارضة إصلاحية تنافح جمود الإمامة الكهنوتية وتفنّد مسلماتها وقدسيتها، بحسب مبحث الدكتور أحمد قايد الصايدي، في كتابه المشار إليه. منتصف الخمسينات في عدن، تأسست الجبهة الوطنية المتحدة 1955 من التيارات السياسية المختلفة: البعث، القوميون العرب، والتيار الناصري، والماركسيون. وكانت النقابات العمالية وتيارات ليبرالية وإسلامية موجودة.

تأسيس الجبهة الوطنية المتحدة الآتية من النقابات العمالية كان الرد العملي ضد سعي بريطانيا لفصل الجنوب اليمني عن الشمال، والعمل على إنشاء اتحاد الجنوب العربي؛ لحرمان أبناء الشمال من المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي 1955، وهو ما قبلت به الرابطة وبعض المشايخ والسلاطين والمستوزرين، وإن رفضه أيضاً كثير من السلاطين والمشايخ بحسب تأكيد الجاوي في كتابه «الصحافة النقابية في عدن 1957-1967». الأربعينات والخمسينات وشطر من الستينات كانت البداية الحقيقية لنضال سلمي ديمقراطي انخراط فيه مؤتمر عدن للنقابات، والصحافة العدنية، والرابطة، والاتجاهات السياسية المختلفة. انحياز رابطة أبناء الجنوب للانتخابات التشريعية، وموافقتها على إقصاء أبناء الشمال دفع إلى خروج الأحزاب القومية الحديثة والماركسية 1957. الصراع القومي بين مصر والعرق أولاً، وبين ناصر والبعث في سوريا، والخلافات القومية القومية الماركسية- انعكس سلباً على التجربة السياسية في عدن، وبدأ الصراع يتسع ويتعمق، لينتقل بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر إلى مختلف مناطق اليمن. وفي بلد تختلف ظروفه عن مصر والعراق وسوريا. ولعبت القيادات المصرية في اليمن دوراً سلبياً في هذا الاتجاه.

منذ البدء اتخذ الصراع طابع التخوين والتكفير والإقصاء حد إحراق الصحف كإحراق صحيفة «الأمل»، وفيما بعد «الكفاح» و«اليقظة»، والاغتيال كما هو الحال بالنسبة للنقابي العمالي حسين القاضي، الزعيم البعثي، والنقابي اليساري عبد الله عبد المجيد السلفي. عم الانشقاق الفئات العمالية: مؤتمر نقابات عدن، والمؤتمر العمالي، والنقابات الست، والصحافة النقابية. انقسمت القيادات العمالية والسياسية إزاء مطلب الاستقلال بين رفض الكفاح المسلح والرهان على وعود حزب العمال «الحركة الفابية» في منح الاستقلال عام 68، بينما تبنت الكفاح المسلح حركة القوميين العرب، والناصريون والماركسيون «الاتحاد الشعبي الديمقراطي». رفض الجناح اليميني في الحركة العمالية، وحزب الشعب الاشتراكي القريب من البعث الكفاح المسلح رغم دعوته للاشتراك في الجبهة القومية لتحرير الجنوب، في حين رُفِضَ اشتراك الماركسيين المؤيدين للكفاح المسلح، وكانت صحيفة «الأمل»- صحيفة الاتحاد الشعبي الديمقراطي-، و«الطريق» القريبة منه مؤيدتين للكفاح المسلح بقوة، والأولى ناطقة باسمه. يشير الدكتور أحمد عطية المصري في كتابه «النجم الأحمر فوق اليمن» إلى الأطراف المكونة للجبهة القومية عام 63، أي بعد عام واحد من قيام ثورة سبتمبر 62؛ فقد: «تكونت عن طريق تجمع الأفراد والجماعات والمنظمات التي آمنت بالكفاح المسلح طريقاً لحل التناقض مع الاستعمار البريطاني وعملائه المحليين. وتبنت الجبهة بشكل مؤقت ميثاقها القومي الذي حدد بشكل مختصر وسريع تصوراتها بالنسبة للمبادئ والأهداف. كما اتخذت موقفاً معادياً من الماركسيين اليمنيين؛ وهذا يفسر استبعادهم من المشاركة في الجبهة القومية عند تكوينها. كما امتنع عن المشاركة في الجبهة التنظيماتُ السياسية التي لا تؤمن بالكفاح المسلح مثل رابطة أبناء الجنوب العربي. كما رفض حزب الشعب الاشتراكي المشاركة في الجبهة القومية التي كانت منفتحة عليه بسبب مكانته في اليمن الجنوبي بوصفه أبرز التنظيمات السياسية الموجودة؛، ولأنه كان معروفاً على الصعيد الدولي؛ ولوجود عناصر وطنية شريفة داخل الحزب». وقد تكونت الجبهة القومية، كما تؤكد العديد من المصادر الموثوقة، ومنها الكتاب المشار إليه، من: الجبهة الناصرية. حركة القوميين العرب.  المنظمة الثورية لجنوب اليمن. التشكيل السري للضباط والجنود الأحرار. جبهة الإصلاح اليافعية. تشكيل القبائل. ولعل هذا التنوع بين أطراف الجبهة، وغياب التجربة الديمقراطية، والاعتداد الكلي بالكفاح المسلح، والحضور الكبير للريف والانتماء القبلي، هو ما يفسر انفراط عقد العنف والصراعات الكالحة داخلها منذ المراحل الأولى.
لا نريد إعفاء الطرف الذي حقق مجد الاستقلال، وقاد الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، وهي الجبهة القومية، من النقد. ولكن أيضاً لا يمكن التغاضي عن أخطاء الأطراف الرافضة للكفاح المسلح، أو المعادية للاستقلال الموالية لبريطانيا من السلاطين والمستوزرين وتيارات سياسية معينة. ثم قبل ذلك وبعده المؤامرات الاستعمارية للمدرسة الاستعمارية الأولى في العالم، بريطانيا العظمى، حينها.

منذ البدء حرصت بريطانيا على إبقاء السلطنات، أكثر من 22 مشيخة وسلطنة بحدود ومراسيم وإدارة وسلطة، كما هي حاميةً لحدودها، واستقلالها الوهمي. قوت بريطانيا الصراع بين اليمن والسعودية، وساعدت السعودية على احتلال نجران وجيزان وعسير؛ لفرض اتفاقية 1934 على المتوكلية اليمنية. منذ منتصف الثلاثينات بدأت الإعداد لاتحاد الجنوب العربي. سنّت القوانين لإعطاء المواطنة لدول الكومنولث، وحرمت منها أبناء شمال الوطن الذين كانوا يمثلون أغلبية العمال والحرفيين في عدن، ويصلون إلى 72 % من سكانها. كانت الانقسامات موجودة، ولكن الإدارة البريطانية شديدة المكر والذكاء ولها خبرة قرون من الاستعمار وظفتها في جنوب اليمن، وفي البلدان المستعمرة، وبالأخص في البلدان العربية، وكان من ثمارها الكريهة وعد بلفور المشئوم 1917. عندما نقرأ تجربة الحركة الوطنية في الجنوب ودور الإنجليز في تعميق الصراعات، نرى أن بريطانيا عملت على شعار اتحاد الجنوب العربي، وهو شعار لم يؤيده غير الاتحاد الوطني: حسن علي بيومي، والمؤتمر الدستوري كامتداد للجمعية العدنية: محمد علي لقمان، وأجرت الانتخابات للمجلس التشريعي 1955 و1959؛ وهو ما أدى إلى تصدع رابطة أبناء الجنوب، وظهور الجبهة الوطنية المتحدة، وبروز دور المؤتمر العمالي، والحركة النقابية، وخروج الأحزاب القومية واليسارية من الرابطة: البعث، وحركة القوميين العرب، والماركسيين. ومنذ البدء، عملت الإدارة البريطانية على عزل العمال عن السياسة، وأقنعت بعض قيادات المؤتمر العمالي وصحيفتهم «العامل» برفض المطالب السياسية للعمال في بلد يعاني الويلات من الاستعمار، بينما كل المطالب الحياتية مرتبطة أشد الارتباط بالسياسة؛ فالسياسي غير معزول عن الاقتصادي والثقافي والحقوقي؛ وقد ترتب على ذلك الانشقاق بين العمال، وهو عائد إلى الفصل بين المطالب الاقتصادية والسياسية كما حصل في: المؤتمر العمالي، والنقابات الست، وامتد إلى الأحزاب: حزب الشعب الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، والجبهة القومية، كما ارتبط الخلاف أيضاً بوعد الاستقلال الكامل والناجز.

ثورة الرابع عشر من أكتوبر انطلقت بعد بضعة أشهر من قيام ثورة الـ26 من سبتمبر 62 ؛ ما يعني الترابط العميق بين الحركة الوطنية، ومسار الأحداث. تفجرت الثورتان اليمنيتان: سبتمبر وأكتوبر في مناخ ثوري عالمي. فرياح حركات التحرر الوطني تجتاح القارات الثلاث، وشمس الاستعمار في لحظة أفول. فبعد طرد بريطانيا من الهند، وانسحابها من قناة السويس، وخسرانها جل مستعمراتها، نقلت القاعدة العسكرية إلى عدن. انتصرت الثورة القومية في مصر وسوريا والعراق، وتحررت الجزائر، وكان استقلال الجنوب، وكسر حصار صنعاء رداً قوياً قومياً ضد هزيمة 67، كما أشار إلى ذلكم الزعيم العربي جمال عبد الناصر، في لقائه مع وفد يمني.

خطاب ناصر في تعز عام 64 كان إنذاراً قومياً لبريطانيا لمغادرة عدن. الموقف المزدوج في صنعاء كما في مصر وسوريا والعراق، والصراعات بين الاتجاهات القومية وأنظمتها كان له الأثر البالغ على ثورة أكتوبر التحررية في الجنوب. وقف المشير السلال والضباط الأحرار إلى جانب كفاح الجبهة القومية، في حين وقفت القوى التقليدية إلى جانب جبهة التحرير والتنظيم الشعبي. وقفت السعودية والأنظمة الرجعية وفرنسا وأمريكا ضد الثورة بالأساس.

كان موقف الزعيم عبد الناصر الدعم القوي للثورة، في حين وقفت مراكز القوى إلى جانب جبهة التحرير، وفرضت الدمج القسري مما جمد الكفاح المسلح لأكثر من شهرين. الدمج القسري في 13 يناير 65 كان ذروة التآمر، واشتركت فيه مراكز القوى المصرية، والقوى المعادية للكفاح المسلح، وخصوم الجبهة القومية في صنعاء. ويقيناً، فإن تجذر كفاح الجبهة وامتدادها في طول اليمن وعرضها، وطبيعة ميثاقها السياسي ذي المنحى القومي اليساري هو ما جر عليها غضب هذه الأطراف.

النص في الميثاق السياسي على «الأرض للفلاح»، وتأميم الأرض «الإصلاح الزراعي»، وتأميم الاحتكارات الأجنبية، والمساواة بين الرجل والمرأ، وضعت الجبهة القومية في مصاف القوى التقدمية الأكثر جذرية ويسارية في حركات التحرر الوطني. ولقيت الجبهة الدعم والتأييد من قبل اليسار والمعسكر الاشتراكي، وأكد الميثاق على بناء المجتمع الاشتراكي بعد قيام الوحدة اليمنية. والواقع أن لهذا التنصيص جوانب إيجابية وجوانب سلبية، وقد أشرت إلى الجوانب الإيجابية. أما الجوانب السلبية، فقد جرت على الجبهة الويلات. والأخطر أن الاحتكارات الأجنبية، وملاك العقارات هربوا الأموال، ورهنوا العقارات للبنوك، وغادروا البلاد بعد تفليسها، وكان التطبيق، سواء للإصلاح الزراعي، أو للتأميمات غاية في القسوة والتطرف. لم تجد قيادة الجبهة ما تؤممه؛ فأممت قوارب الصيد، والمنازل، والدكاكين، والسينما، والحيازات الصغيرة، وصادرت الحياة السياسية، كما صادرت الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وأغلقت البلد الذي كان مفتوحا أمام العالم. في الذكرى الخامسة والخمسين لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة لابد من إعادة قراءة التجربة ونقدها، واستبطان جوانب التجربة الثورية بما لها وما عليها، وعدم تحميلها أيضاً أخطاء خصومها السياسيين. فالتجربة الثورية العربية تشاركت في صنع الأخطاء، والفعل ورد الفعل، وأسهمت انقساماتها وصراعاتها في تمكين أعدائها من هزيمتها. المأزق أن الطبقة الوسطى الضعيفة، خصوصاً في اليمن، ولدت منقسمة وموزعة على الاتجاهات الجهوية والقبائلية والمذهبية والفكرية والسياسية. منذ البدء كان حضور الريف قوياً في صفوف الجبهة القومية.

العربي