ورود تحترق…

اخترنا لك

مساء اليوم الثامن من ديسمبر العام الماضي ، كانت الطفلة (آية) تنثر عبير ضحكاتها المفعمة بالحياة فتبتلعها العتمة الجاثمة على المدينة تحيطها أمها وجدتها وخالتها وفاء  وزوج خالتها وخالتها الصُغرى يجمعهم المحبة والألفة يترقبون معجزةً تقلهم إلى جزر السعادة والحياة الرغيدة ؛ حياةٌ لا يُلوثها  دخان القهر والنفاق!

 

وطن يقدسُ الإنسان ويوليه جل حقوقه وأبسط أحلامه ..

لم يستو الحلم بعد! ، ولم تكف “آية ” عن شغبها الطفولي ،

فجأةً …

دوى صوت قوي أفزعهم وزلزل نفوسهم المطمئنة..

 

الشابة وفاء ابنة (24)ربيعاً ليست بفتاة عادية إنها شخصية طموحة ،مخلصة في عملها تنظر للحياة من نافذتها المليئة تفاؤلاً وإصراراً ، تحلم بغدٍ مشرق.

بعد زواجها , سافرت (وفاء)  إلى الدريهمي آملةً بحياة جميلة وهانئةً هناك ..تاركة أهلها القاطنين في حي (الربصة )  الواقعة جنوب الحديدة ، وحين دارت رحى الحرب ، وامتدت ألسنتها لتحرق كل جميل في الدريهمي لم يعد لها ولزوجها مفر سوى النزوح والهرب إلى مكان آمن والعودة مجدداً إلى أحضان أسرتها

وكأنها تقول:

ما جئت إلا لأشارككم الألم ذاته ,

ما حملني إلى هنا إلا لأُلاقي حصتي من الوجع معكم ,

معكم وعليكم أذرف الدماء..

لم يكن في حسبان المرأة  أن آلة الدمار ستلحق بها وتسرق في غفلة من الزمن والعالم أغلى ما تملك وتحولها إلى فتاة مقعدة عاجزة بعد أن كانت في عنفوان شبابها وتحول ربيع حياتها إلى شتاء قاس موحش ..  أطنان من الألم التي لا طاقة لها بحمله .

 

لم يكن ذلك الصوت غير إنفجار كبير  إثر قذيفةٍ  أخرست كل شيء  ، وجثمت على أنفاسهم بكل قوة تود إقتلاع أرواحهم من أجسادهم عنوة بغير شفقة أو رحمة..

لاصوت يمكنها أن تميزه ، يختلط أنين أختها وأمها وزوجها مع أصوات قذائف تتوهج بين الفينة والآخرى لتوقظ هذا الليل من غفوته ، تسمع خطو أبيها القادم بتجاههم ينادي عليها بصوت يملؤه الذعر والخوف لكنها تغيب عن الوعي إثر ما نزفته من دماء ..

 

تنقضي الدقائق وأنصاف الساعات ولاتزال فرق الإنقاذ المؤلفة من شباب الحي يجاهدون في نقل المصابين إلى المستشفى ، في ظل الطرق التي لم تسلم هي الأخرى من عبث العابثين ، أجساد تطالب بحقها في الحياة , أو حقها في الموت بكرامة ؛ في ظل الواقع القهري الذي أُجبرنا على العيش والتأقلم معه ..بعد المجهود الذي بذلته فرق الإنقاذ تم نقل عشرات الجرحى والمصابين إلى المستشفى ، في ظل الطرق التي لم تسلم هي الأخرى من عبث العابثين ، أجساد تطالب بحقها في الحياة , أو حقها في الموت بكرامة ؛ في ظل الواقع القهري الذي أُجبرنا على العيش والتأقلم معه ..بعد المجهود الذي بذلته فرق الإنقاذ تم نقل عشرات الجرحى والمصابين إلى مستشفى الثورة وبقية المصابين نقلوا إلى مستشفى الأمل بعد إمتلاء أقسام الطوارئ في المستشفى الأول .

 

وجدت (وفاء)  نفسها مستلقية في المستشفى , غير مدركة أين هي ؟ وماذا حدث ؟ بعد غيبوية طويلة عن الوعي استمرت قرابة اسبوع .

استيقظت الفتاة لتجد معدات طبية موصلة بجسدها تسري خلالها أدوية إلى أوردتها ،وبعض الضمادات الصغيرة في كل من جبهتها وساعدها الأيمن والتي توحي بأنها خدوش سطحية بسيطة ، تلتفت إلى والدها الجالس بجوارها والذي يتضح من ملامح وجهه الشحوب والإرهاق ، تحاول أن تُسمعه صوتها لكنه يصل خافتاً ، يلتفت إليها يلهج لسانه بالدعاء والحمد ، تسأله بوهن عن أمها وزوجها واختها تسأله وهي تشد على يده بضعف وكأنها ترجوه ألا يفجعها بهم ، أن يخبرها أنهم في المنزل ينتظرونها ، لكن رجائها تمزق وتبعثر مع حشرجة أنفاسه التي تجاهد أن تتماسك ودموع تتفادى السقوط أمام عينيها المتسائلة بالحيرة..!

–  أمك وزوجك لازالا تحت المراقبة الطبية في مستشفى الأمل ويخضعان لعلاج مستمر  .

تمالكتها رغبة عارمة في البكاء والصراخ وحدها دموعٌ خرساء تنهمر بغزارة مبللة وجنتيها الشاحبة ، تحاول ٌأن تستجمع صوتها الذي يخونها تاركاً المجال لموجة أخرى من النحيب

تسأله بصوت متحشرج ، ماذا عن أختاي وآيه؟

يجيبها وعبرة تخنقه ؛ لقد لاقت آية ربها مع أمها ،وأختك الصغيرة بخير ، غيرَ كسر في ساقها اليسرى

، تصمت هي الآخرى ، تشعر بألم في إحدى قدميها تحاول رفع جسدها قليلاً ؛ لكنها شعرت بثقل في أطرافها السفلية يعيقها عن الحركة, أضطربت لما وجدته في جسدها , تفتح فاها لتطلق صرخة تملؤها القهر والألم وهي تنظر جزء من ساقها اليسرى مفقوداً والآخرى تجهل مصيرها غير أنها ملفوفة بالضمادات ، فيخونها صوتها ؛ لتخرج صرخة جوفاء .

تدخل الممرضة تعطيها حقنة تسترخي بعدها ؛ فالحركة تؤدي إلى مضاعفات في حالتها ..

هذا هو الحل الوحيد كي ترتاح من الآمها النفسية والجسدية  حتى ولو لبضع ساعات فقط تستسلم خلالها للنوم..

حلم آخر بعد لم يرى النور ، حلم انتظرته أن يجي بعد خمسة أشهر ،بطفل يقر عينيها ؛ لكنه لم يكن بالقوة الكافية

ليدفع عنها الضرر (جنينها ذو الأربعة أشهر) أجهض ايضاً ..

قلة الدخل وغلاء الأسعار وانقطاع الرواتب جعل من علاج الفتاة في إحدى المستشفيات المتخصصة أمراً مستحيلاً .

‘لم نعد نرى معالم الحياة في وجه الفتاة’ هذا ما قالته صديقتها التي تربطها بها صداقة حميمة  منذ عشرة أعوام , بعد أن جاهدت كثيراً لجعلها تتحدث دون جدوى ، ناهيك عن ابتسامتها المميزة التي رحلت كما رحلت أختها الكبرى أمام عينها بشظية اقتلعت رأسها عن جسدها النحيل ، لم تجد صديقتها سوى لمحةً من الحزن تكسو عيناها الذابلتان  وغيوم من الآسى تلقي بظلالها على تقاسيم وجهها الذي كان يضج بالنضارة والحياة ..

لماذا كنت معهم ولم أذهب حيث ذهب الآخرون

بأي عين سأنظر للحياة التي كشرت عن أنياب الشقاء في وجهي ..؟

وأي درب أسلكه بأقدام لم تعد تحملني!

بماذا سأضحي أيضاً في هذه الحرب العبثية القذرة ..

وكم عدد من ثُكلن وتيتمن وابتُلين بالإعاقة مثلي ..!

تغادر (وفاء) المشفى برفقة والدها الذي بقى لها ولم تطاله ألسنة الحرب رحمة إلاهية بها وبعائلتها ليوفر لهم ما يحتاجونه ، ها هي ذي تعبر الزقاق الذي عبرته بالأمس القريب فوق أحد الأكتاف غائبة الوعي ، من هنا كانت تخرج صباحاً ذاهبة إلى عملها وتمشي بقدميها ، تنظر عجزها مع هذا الكرسي الذي تجلس عليه ..

قبل أشهر من الآن فقط ، كانت تمارس حياتها بدون أن يعيقها عائق ، تذهب إلى المستشفى الذي كانت تمارس فيه وظيفتها في مداوة المرضى وتبتسم في وجوههم بأمل كبير ، من له بمداوة جروحها الغائرة الآن ، من سيبتسم في وجهها؟ ، تتسلل دمعة لتحرق أسئلتها

كأنه الحي بات يتنكرها أو أنها باتت تتنكره

خرسانات الأسمنت في كل جانب ، جدران انهارت إثر الضربات المتكررة ، الشمس التي تكاد تغطس في عمق البحر تشيعها بوهجها الأخير ..

تمر على أوجاعها بحذر تنظر بتوجس الى ما خلفته الحرب ، ذاكرتها لا ترحمها ها هي تعيد كل شيء له علاقة بالحادث المرير ليبكي جسدها بالكامل , تدوي في رأسها ضحكات ‘ آية ‘ الراحلة ، وعيناها الفضوليتان ، بمساعدة والدها تتخذ مكاناً لها تجلس فيه يصحبها الصمت والكثير من الدموع ناظرة في الفراغ داعب الهواء خصلات شعرها الثائرة ؛فانحسرت على جبينها ،أطلقت زفيراً حارقاً لتخفف قليلاً مما ازدحم بداخلها لكنها لم تزداد إلا اختناقاً رئتيها تتقلصان مع كل وخزة وجع تجتاحها ،بهتت ملامحها وانحفرت بها مراسم الحداد ،ليست وحدها ترثي الليلة أشياء كثيرة ،فهي تكاد تشعر بالكون كله متواطئ مع حزنها

تلك النجوم التي تبرق في سماء الليل كأنها دموع متحجرة على وجنته الذابلة ..!

إلى أي مدى ينوي هذا الليل أن يطول ؟وإلى متى ستظل عقارب الساعة تدوي خلال هذا الصمت العقيم !، هذا الحزن اللعين يريد أن يؤثث للمدينة داخلها يرتع فيها ، يريدها أن تقطع حبال آمالها بكل شيء

 

يستمر حداد (وفاء) وتمضي الشهور والأيام ولاتزال تحت المراقبة الطبية بشأن قدمها اليمنى التي تعرضت لكسور بليغة وتضاعفت معاناتها في ظل غياب شبه كامل لمعدات طبية متطورة وشحة في العقاقير ؛ بسبب الحرب التي أكلت الأخضر ولم تستبقِ اليابس .

 

 

 

أحدث العناوين

تعرف على خارطة انتشار التظاهرات الطلابية المنددة بالعدوان على غزة في أمريكا

ظهرت احتجاجات واعتصامات في كليات وجامعات أمريكية في جميع أنحاء البلاد، عقب الأسبوع الذي تلا بدء جامعة كولومبيا في...

مقالات ذات صلة