اتفاق الحديدة؛ شمعة أولى بين المتاريس

اخترنا لك

عام كامل يكاد ينقضى منذ إبرام اتفاقية ستوكهولم بشأن الحديدة، فيما لا يزال تنفيذها متعذرا في أرض الواقع لتعثر تنفيذ البنود الأساسية التي تقوم عليها و هي؛ وقف إطلاق النار المفترض سريانه من تاريخ ١٨ ديسمبر ٢٠١٨، و إعادة انتشار القوات العسكرية بعيدا عن المدينة خلال ٢١ يوما من تاريخ وقف إطلاق النار، و فتح مداخل المدينة أمام حركة المدنيين.

الحديدة-أكرم عبدالفتاح-ئالخبر اليمني:

فخلال الفترة المنقضية من عمر الاتفاق لم يتوقف إطلاق النار فعليا سوى لأيام قليلة متفرقة، فيما ظلت محاور القتال على مشارف المدينة مسرحا للاشتباكات و محاولات هجوم متكررة تغذيها تعزيزات متواصلة بحشود الجنود و الآليات، نفس الشيء حدث في كل مديريات جنوب المحافظة من أطراف “حيس” إلى التحيتا وصولا إلى مركز الدريهمي المحاصرة. و في هذا الشأن يتحدث الطرفان المتقاتلان على الأرض عن آلاف الخروقات لوقف إطلاق النار، في حين تصمت “الأمم المتحدة” التي هي الطرف الثالث الضامن في الاتفاق و المشرف على تنفيذه.

من بين مضامين الاتفاق، فإن إعادة انتشار القوات بعيدا عن مدينة الحديدة و فتح طريق كيلو ١٦ ، هي النقطة الجوهرية التي يمكن اعتبارها مقياسا لمدى الجدية في تنفيذ الاتفاقية و إعلانا لنجاحها، فما الذي تم بهذا الشأن؟

في مايو ٢٠١٩ أعلنت الأمم المتحدة أن سلطة صنعاء قد نفذت ما يخصها في أولى خطوات عملية إعادة الانتشار عندما سحبت قواتها العسكرية و قامت بتسليم الموانئ الثلاثة إلى الجهات الأمنية ممثلة بشرطة خفر السواحل طبقا لنص الاتفاقية، و هي خطوة أولى جاءت كمبادرة من طرف واحد بعد رفض الطرف الآخر تنفيذ التزاماته رغم مرور أشهر طويلة من الاجتماعات التي حاول وفد الشرعية خلالها فرض تفسير مغلوط لبنود الاتفاق المعلن أو إعادة التفاوض على ما تم إقراره سابقا في ستوكهولهم.

بالنتيجة، لم يقم الطرف المهاجم بتنفيذ التزاماته في المرحلة الأولى من إعادة الانتشار ليعيق بهذا بقية الخطوات…

بموجب هذا الانسحاب فقد تولت اللجان التابعة للأمم المتحدة مهامها الإشرافية في الموانئ الثلاثة، لكنها تجاهلت النقطة الأهم و هي نقل مقر لجنة تفتيش السفن الواردة “آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM)” من جيبوتي إلى الحديدة لتؤدي مهام تفتيش سفن الشحن الواردة داخل الموانئ اليمنية الثلاثة. إذ ما زالت الأمم المتحدة تماطل في تنفيذ هذه الخطوة.

هكذا يبدو أن الأمم المتحدة هي أيضا مشاركة في خرق بنود الاتفاقية، تحديدا البند رقم ٨  الذي ينص على مايلي:

 “دور قيادي للأمم المتحدة في دعم الإدارة وعمليات التفتيش للمؤسسة العامة لموانئ البحر الأحمر اليمنية في  وموانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى ويشمل ذلك تعزيز آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM) في موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى.”

علماً أن المقر الأصلي للجنة التفتيش هو الحديدة حيث كانت اللجنة تزاول عملها خلال عام ٢٠١٥م بموجب قرار مجلس الأمن، لكن التحالف الخليجي استغل التواطؤ الدولي ليفرض على الأمم المتحدة نقل مقر اللجنة إلى جيبوتي لتمارس إجراءات التفتيش من هناك كي يسهل له التدخل في عملها و عرقلة وصول البضائع إلى اليمن لأطول فترة ممكنة إضافة إلى جعل الاستيراد عبر ميناء الحديدة أكثر صعوبة و أعلى تكلفة بما يؤدي لتكبيد التجار المستوردين تكاليف شحن إضافية بسبب تحويل مسار السفن إلى جيبوتي أولا للتفتيش ثم التوجه نحو الحديدة لتحتجزها أساطيل التحالف في عرض البحر لفترة إضافية بمبررات التدقيق و المراجعة غالباً، وبهذا تضاف قيمة غرامات تأخير السفن إلى إجمالي قيمة تكلفة الاستيراد ما ينعكس على رفع أسعار بيع السلع بنسبة كبيرة يتحملها المواطن اليمني في نهاية المطاف.

نقاط المراقبة كبديل عن إعادة الانتشار

طوال الفترة من مايو حتى منتصف أكتوبر الماضي لم يتحقق أي إنجاز عملي على مسار تنفيذ الاتفاق، حيث دخلت لجنة إعادة الانتشار بقيادة الفريق الأممي حالة من الجمود رغم استمرار الاشتباكات اليومية على خطوط التماس. ثم حدث التطور الأبرز و الأوضح تأثيرا و إن كان غير منسجم مع نص الاتفاقية، بل يمكن اعتباره قفزا على أهم بنودها.

ففي نهاية أكتوبر، و للخروج من حالة الجمود قررت لجنة إعادة الانتشار القيام بإنشاء نقاط مشتركة لمراقبة وقف إطلاق النار على خطوط التماس الحالية، أي بدون تنفيذ بند إعادة الانتشار!

و بالفعل تم إنشاء نقاط المراقبة بمشاركة ممثلين عن جميع الاطراف (قوات التحالف، قوات حكومة صنعاء، الأمم المتحدة).

هذه الخطوة على محدوديتها تمثل قفزة نوعية في المسار العملي لوقف إطلاق النار، لكن استمرار رفض إعادة الانتشار يظل مؤشرا على أن الحديدة لا زالت قبلة أطماع الحكومة الإماراتية التي هي القوة المحركة لمعركة الساحل. ( للمزيد راجع الجزء ٢)

نتج عن هذه الخطوة توقف شبه تام للاشتباكات في أطراف مدينة الحديدة بعد أن كانت أصوات دويها أمرا مألوفا، و لأول مرة منذ إعلان اتفاق السويد صار بإمكان أهالي المدينة النوم دون سماع أصوات الرشاشات الثقيلة و القذائف المدفعية في محيط المدينة.

أما عن بقية الجبهات في ريف المحافظة الجنوبي، من الدريهمي حتى حيس، فلا زالت تشهد اشتباكات و خروقات متواصلة من يوم لآخر، و من المتوقع أن تعمل لجنة تنفيذ إعادة الانتشار على إنشاء نقاط مراقبة مماثلة في تلك المناطق، و هو ما قد يبدو إنجازا مهما على مسار التهدئة إن حدث.

لكن و من ناحية أخرى فإن إنشاء نقاط المراقبة قبل تنفيذ انسحاب القوات المهاجمة من حول المدينة هي خطوة تعني تثبيت تواجد القوات المهاجمة في مواقعها التي كان يجب الانسحاب منها إلى مناطق بعيدة عن المدينة وفق مبدأ إعادة الانتشار، و بحيث تبقى خطوط الجبهة قائمة في مكانها على أطراف المدينة الجنوبية و الشرقية، قاطعة طريق الكيلو ١٦ و طريق الخط الساحلي برغم أن فتح مداخل المدينة أمام حركة المدنيين و البضائع و القوافل الإغاثية هو واحد من أهم غايات اتفاق الحديدة و هو المؤشر الأساسي لمدى نجاح تنفيذه.

في الحقيقة، تبدو خطوة إنشاء نقاط المراقبة الحالية أشبه بعملية تخدير موضعي سوف ينتج عنها حالة جمود أكثر رسوخاً و ربما أطول زمناً لكن دون زوال الخطر، كونها أغفلت الحاجة الملحة لإبعاد خطوط القتال عن المدينة و منحت وجودها نوعا من الشرعنة التوافقية. و الأخطر هو أنها أزاحت “مبدأ إعادة الانتشار” من أولويات لجنة الأمم المتحدة رغم انه هو النقطة الجوهرية لتنفيذ الاتفاق بل هو أساس وظيفة اللجنة الأممية التي تحمل اسم “لجنة إعادة الانتشار” و الغاية التي أنشأت من اجله!

بالنتيجة، صارت الحياة الآن أقرب للهدوء داخل مدينة الحديدة، لكن الوضع الذي نشأ بعد تثبيت نقاط المراقبة يترك الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات، خصوصا أن وقائع المأساة التي تشهدها مدينة الدريهمي المحاصرة تحت وقع قصف شبه يومي مع تجاهل أممي لمعاناة سكانها، هو وضع يشبه جرحا مفتوحا قد يدفع سلطة صنعاء لتنفيذ عملية عسكرية بهدف فك الحصار عن المدينة الصغيرة، لكن هذا الاحتمال مستبعد على المدى القريب بعد الوعود الأممية بإنشاء نقطة مراقبة جديدة تضمن وقف إطلاق النار هناك.

بالنسبة للأمم المتحدة، لعل ساسة المنظمة الدولية، و من يتحكمون بها، يفضلون استمرار الوضع الحالي لأطول فترة ممكنة كونه يتيح لهم استثماره كورقة ضاغطة على حكومة صنعاء بحيث يمكن صرفها في ملفات أخرى تهم واشنطن و لندن ضمن مساعي إدامة الهيمنة على المنطقة في مواجهة الصعود الصيني و التهديد الإيراني.

و لا يستبعد أن يصل الأمر بالأمم المتحدة لمحاولة استدعاء قوة عسكرية أممية تفصل بين خطوط النار على الجهتين، لكن هذه الفكرة بالطبع لن تلاقي أي قبول من سلطات صنعاء.

لذا فعلى الأرجح أن هذا الوضع سيطول بقاؤه كما هو دون إحراز أي تقدم على مسار التنفيذ الكامل لاتفاق الحديدة خلال الأشهر القادمة.

و هذا بالطبع سيقود على المدى البعيد إلى خلق أجواء و ظروف ضاغطة تدفع أحد الطرفين باتجاه تفجير الأوضاع أملا بإمكانية الحسم العسكري أو استجابة لتطورات ميدانية في الجبهات الأخرى أو حتى ضمن تداعيات أحداث مزلزلة قادمة على مستوى الصراع الإقليمي.

لا يقتصر الأمر هنا على فكرة أن تقارب المتارس المتواجهة يحمل خطر اشتعالها لأي سبب بما في ذلك العامل النفسي عند المتحاربين، فمثل هذا السبب لن ينتج عنه سوى اشتباكات من قبيل الخروقات المعتادة، بل المهم هو أن بقاء القوات المهاجمة على مشارف المدينة، و مينائها الثمين في نظر حكام الإمارات، يحفظ لهم الأمل بإمكانية تحقيق أطماعهم لاحقاً بالسيطرة عليها عبر أتباعهم إن تغيرت موازين القوى قريباً، أو حتى أن يفاوضوا على ثمن الانسحاب باتفاقات تعطيهم مزايا تفضيلية قدر الإمكان في مفاوضات تصفية حسابات الحرب.

المراوغة الإماراتية خلال الأشهر الأخيرة تشير إلى حرصها على الاحتفاظ بعدة خيارات بديلة تمنح خطواتها القادمة مرونة على أي مسار قد تسمح به مستجدات الأحداث، من أجل ذلك حرصت على تنصيب قوة محلية جنوب الحديدة و دعمتها بالكثير من السلاح و مقومات البقاء هي جمهورية “خلفاء عفاش” الذين تريد لهم أن يحكموا منطقة نفوذ على الساحل مركزها مدينة المخا و تراهن عليهم كوكلاء مستقبليين لها ضمن أوهام تقسيم اليمن. هؤلاء قد يعهد لهم ابن زايد باستكمال محاولة احتلال الحديدة لحسابه إن سمحت الظروف، و إلا فسوف يكون مفيدا لو تم ربط انسحاب المقاتلين من حول الحديدة بصفقة لاحقة تسمح بترتيبات ملائمة لإدامة نفوذ ورثة عفاش جنوب الساحل الغربي، أو حتى لضمان إدماجهم في مركز مؤثر ضمن سلطة ما بعد الحرب.

لا تنتهي الاحتمالات بخصوص توقع مآلات اتفاق الحديدة و مسارات تنفيذه أو إسقاطه نهائيا، و ضمنها تبقى مسارات الحسم العسكري هي الأقرب للواقع المحكوم بتناقض توجهات أطراف الصراع و مشاريعهم و ارتباطاتهم ضمن تحالفات الصراع الأوسع على مستوى المنطقة و استراتيجيات القوى الكبرى بشأنها.

قد يمكن القول أيضا أن تعقيد الحل في الحديدة هو وسيلة مساومة إماراتية في مواجهة تنامي قدرات القوات الصاروخية و الطيران المسير لسلطة صنعاء، لا سيما بعد الضربات المدوية لمنشآت أرامكو السعودية، و إن كان هذا مجرد تفصيل إضافي مستجد إلى جوار تشابكات عديدة متراكمة سبق توضيح جانب منها أعلاه كتفسير لتعثر تنفيذ اتفاق ستوكهولم، و بالتأكيد هناك جوانب اخرى يفترض أخذها بالحسبان و تستدعي إعادة قراءة قضية الصراع على الحديدة منذ بدايتها و ضمن سياق تطورها الواقعي لا كما صورتها حملات التشويش الإعلامي التي تعمدت التلاعب بتفاصيل القضية و أحداثها، بما في ذلك تطورات الميدان و موازين القوى و دور أطراف الصراع استنادا لدوافعهم و أغراضهم الحقيقية و التغيرات التي طرأت على مواقفهم بمرور الزمن.

كما سيكون مفيدا الحديث عن ملابسات ما جرى خلف كواليس مشاورات السويد و الظروف التي أفضت إلى إقرار اتفاقية الحديدة خلال الساعات الأخيرة من المشاورات يوم ١٣ ديسمبر ٢٠١٨ بشكل فاجأ المتابعين و بمضامين جاءت خارج توقعات الكثيرين.

كل هذه الجوانب سيتم مناقشتها تفصيليا في مجموعة عناوين لاحقة ضمن هذا الملف.

يتبع:

اتفاق ستوكهولم؛ ميناء الحديدة غاية الحرب و أساس السلام

أحدث العناوين

إمساكية رمضان 2024

امساكية شهر رمضان الكريم في صنعاء وعدن وحصرموت والمهرة متابعات- الخبر اليمني : صنعاء عدن حضرموت المهرة الفجر 04:27 04:45 04:25 04:16 الشروق 06.01 05:58 05:45 05:37 الظهر 12:08 12:05 11:47 11:38 العصر 03:27 03:21 03:08 02:58 المغرب 06:15 06:11 05:59 05:49 العشاء 07:45 07:41 07:29 07:19  

مقالات ذات صلة